الوضع المظلم
السبت ١٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
مصور في حقيبة سفر
مصور في حقيبة سفر "رانيا حلاق "

مصور في حقيبة سفر "رانيا حلاق "

تأثير الجماليات البصرية على القوى الإدراكية يمنح المشتغلين في مجال الفوتوغراف فرصة مذهلة للحديث دون حاجة للكتابة، لغة المصور عدسة كاميرته، والمصور المحترف متحدّث محترف، هذا ما استوقفني مع إبداع شاب سوري يشتغل في التصوير ولديه حساب مميز على الإنستغرام، يصور أماكن قد لا تثير انتباهنا كثيراً أثناء التسكع في حواري وشوارع لندن. قررت التعرف على تجربته بعد اطلاعي على لقاء قصير أُجري معه من قبل منظمة إنسانية تُعنى بأمور اللاجئين في بريطانيا.


أتأمل يومياً الصور التي ينشرها في حسابه على الإنستغرام، والتي تتضمن عادةً صور معالم سياحية من زاوية فنية، ثراء بالألوان يمتّع الحاجة البصرية للجماليات، وكأن صوره بطاقة دعوة لزيارة تلك المعالم، كنت أبحث بين الصور عن قصته وعن ملامح وجهه كي أعرف القصة كاملة خلف هذا الابداع، فضولي الكبير دفعني لمراسلته كي أعبر عن إعجابي بإبداعه، كان لطيفاً وشكرني، وأتفقنا على اللقاء في مقهى قريباً من مركز المدينة شهير بتصميمه الدمشقي القديم.


سحرتني جدران المقهى وسقفه المشغول من الخشب المزيّن بالنقوش والزخارف، والتي يعود تاريخها الى عام 1915 حيث تم نقلها من دمشق إلى لندن. أخذتني جمالية المكان وروحه الدمشقية التي تغمره، تساءلت في نفسي عن حال المهاجرين السوريين الهاربين من أحداث العنف، حاملين معهم قصص موجعة، وتاركين خلفهم أحباء لا يعرفون مصيرهم، ووطناً مذبوحاً فيه بقايا ذاكرتهم المتشظية.


وصل أيمن الذي عرفته من ملامحه الشرقية، وابتسامته الخجولة، وعيونه التي اتعبتها أثقال حياة قاسية وهو في مقتبل العمر. شعرت بالمسؤولية تجاهه، فأنا وإن كنت أحمل ذات الوجع ولكني لم أعرّض حياتي للخطر في سبيل الوصول إلى هنا، فقد هربت في سن المراهقة من أسوار دولة بوليسية تشبه سجناً كبيراً ، باحثة عن حقوق الانسان وحرية التعبير في بلد ديمقراطي يسوده القانون على أساس المواطنة العادلة.


سارعته بسؤال عن قصته وعن محفزات الإبداع في صوره، وكيف وصل إلى بريطانيا. كانت اسئلتي متتالية وكأنه في غرفة التحقيق. فأيمن البالغ من العمر 25 عاماً من مدينة حلب، هرب من جحيم الحرب في سوريا ليستقر في تركيا، وفيها تعلم اللغة، وقرر أن يعمل ليغطي مصروفه اليومي، ولكنه بعد أن أستقر في مدينة اسطنبول وحصل على عمل في مطعم يؤمن له قوته اليومي، أضطر للسفر بعد ضغوط والده الحريص على مستقبله في حياة أكثر أمناً واستقراراً.


لم أكن أتوقع أن قصته ستفاجئني بعد سماع مئات القصص السورية بنهاياتها الحزينة، لكن قصة أيمن كانت غير كل القصص، ربما لنهايتها السعيدة وربما لرحلته الشاقة والطويلة من أجل الوصول إلى لندن، فقد مرّ أيمن على سبعة دول أوروبية في طريق وصوله إلى مدينة كاليه الفرنسية التي يفصلها عدة أميال من الماء عن بريطانية، لم يقف عن الحلم بوصوله إلى لندن، وبعد محاولات فاشلة للعبور تم خلالها العثور عليه في حافلات النقل وإعادته إلى كاليه، لكن إصراره دفعه إلى أن يفكر بطريقة أخرى أكثر خطورة ونتائجها قد تودي بحياته، قرر أيمن بالتنسيق مع صديق له بأن يختبئ في حقيبة سفر صغيرة لا تتسع لحجمه فعليه أن يتكور على نفسه في وضعية الجنين ويغلقها مع فتحة صغيرة للتنفس، اخذ صديقه صورة له قبل المغامرة وقد أراني اياها وهو يتابع الحكاية، ”دخلت الحقيبة (يقول أيمن) تكورت على نفسي وأغمضت عيناي و بدأت الدعاء، جر صديقي الحقيبة ووضعها في صندوق الحقائب في حافلة السفر، وأغلق السائق الصندوق، كنت في حقيبة داخل صندوق أحاول أن أتنفس بصعوبة ولا أعرف مصيري وأنا في رحلة إلى المجهول، أغمي علي أكثر من مرة ولكن عزمي وارادتي دفعاني إلى التحمل".


قاطعته بصوت مرتجف " كم استغرقت الرحلة؟"


تابع: " ثمانية ساعات من الخوف والرعب وكأنني أرى الموت في عيني".

قاطعته مرة أخرى " أيمن" وبعدها دقيقة صمت وكأنني أصلي على روحه " أرجوك لا تكمل أنت الآن بخير، لا أريد أن أسمع المزيد".

أيمن الآن هنا بصحة جيدة يعيش مع عائلة بريطانية ترعاه، تابع حلمه في التصوير واشترى كاميرا احترافية، وبدأ رحلة التصوير وكأنه يوثق كل لحظات حياته ما بعد الحقيبة، في كل شارع وزاوية، في الصباح والمساء، يعمل مصوراً محترفاً لصالح شركة بريطانية معروفة.


كثيرة هي قصص السوريين الموجعة، ربما ينظر الغربي لهم بأنهم محظوظون لأنهم الآن في بلدان آمنة، ولكن الحقيقة التي لا يدركها غيرهم هو حجم ما خسروه، لقد فقدوا كل شيء، والآمان لن يمحو آثار جراحات خلفتها الحرب عند السوريين.

غمرتني مشاعر متباينة بين الوجع من قسوة الحياة، وبين الفخر بقوة الإنسان وإصراره على التفوق والإبداع، رغم الكوارث التي عاشها.


مصور في حقيبة سفر "رانيا حلاق "

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!