الوضع المظلم
الأحد ١٦ / يونيو / ٢٠٢٤
Logo
أنا هي آخر
ثائر الزعزوع

ثائر الزعزوع

في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع أواسط عام ٢٠١٥ وتم تصويره في إحدى مناطق محافظة إدلب بعد طرد قوات النظام منها، تظهر سيدة محاطة بمجموعة من مقاتلي الجيش الحر، ونؤكد هنا على أن المقاتلين وقتها كانوا من الجيش الحر الذي لم يعد موجوداً حالياً، تواجه السيدة الخمسينية أسيراً قيل إنه قتل ولدها، وكان مطلوباً منها أن تثأر لولدها، لكن السيدة تكتفي بتوبيخ الأسير، وهي تبدو حزينة، مع أنها كانت تستطيع أن تقتله، فالأسلحة، كما يظهر في الفيديو، كانت متاحة أمامها. لماذا لم تقتل الأم الثكلى قاتل ولدها؟ و هل حقق التوبيخ، وعبارة “الله ينتقم منك” التي قالتها العدالة لولدها؟.


هذان السؤالان معقدان نوعاً ما، فليس الجميع قادرين على تمالك أنفسهم، كما أن فعل القتل نفسه بحاجة لأشخاص مختلفين، قادرين فعلاً على ارتكابه دون الشعور بتأنيب ضمير، كونهم أقدموا على إنهاء حياة إنسان، أياً يكن ذنبه. لكن الأهم، هو أن السيدة أدركت أنه ليس من واجبها الانتقام، و أحالت الأمر برمته إلى عدالة السماء، ولو أن ثمة عدالة أرضية حاضرة في ذلك الوقت، فلن نشك لحظة بأن الأم الثكلى سوف تلجأ إليها.


هذا النموذج من التسامح، يقود بالضرورة للوصول إلى تصالح من نوع ما مع فكرة أننا لسنا نحن الموكلين بتطبيق القانون، وأن إطلاق النار على المخطئين، دون محاكمة، سوف لن يقودنا إلا إلى مزيد من الاقتتال، ونصبح أمام ورطتين، ورطة دم لا تتوقف، طالما استمر القتل فعلاً والقتل ردة فعل، والأهم هو ورطة أخلاقية، فمن أعطانا الحق بتطبيق العدالة؟ وهل نحن مخولون حقاً بتطبيقها؟.


قامت مؤخراً مجموعة قانونية فرنسية برفع دعوى قضائية أمام القضاء الفرنسي بحق العميد أسعد الزعبي الضابط السوري المنشق، والرئيس السابق لوفد المعارضة السورية في مفاوضات جنيف 3، الدعوى جاءت إثر نشر العميد الزعبي تغريدة على حسابه الشخصي، بدا واضحاً أنها تحمل تحريضاً على الإبادة، من خلال التذكير بمجزرة حلبجة التي يُتهم النظام العراقي الأسبق بارتكابها من خلال استخدام أسلحة كيماوية بحق قرية حلبجة في شمال العراق عام ١٩٨٨، وأسفرت عن مقتل الآلاف. ردود الأفعال على تغريدة الزعبي كانت حادة جداً، وهذا طبيعي، لكن بعض تلك الردود لم يخلُ من التعميم والهجوم، لفظياً، على الآخر، فقد كتب أحد المعلقين، على سبيل المثال،: ليس الزعبي وحده من يفكر بهذه الطريقة، بل “هم” جميعاً، أولئك لا يمكننا التعايش معهم أبداً!!


ألا يتحمل الزعبي المسؤولية عما قاله؟ حسناً لماذا إذن هذه ال “هم” و ما الذي ستحققه سوى احتقان إضافي، ومزيد من الأذى الذي لن يقتصر على تغريدات حمقاء، بل سيتجاوزه إلى عدم القدرة على التواصل. و بالنتيجة عدم القدرة على الوصول إلى حل لأزماتنا المتلاحقة. بالمقابل فإن بعض أخطاء قوات سوريا الديمقراطية على سبيل المثال، لن تخلو الانتقادات الموجهة لها من “هم”.


بيئة الكراهية والتحريض ضد الآخر، هي البيئة المناسبة تماماً للديكتاتورية كي تستمر، فهي من خلال خطابها الإعلامي، تبدو متوازنة أكثر بكثير من المعسكر المقابل، تردد أنها إنما تنفي الطائفية والتعصب، وهي تمثل السوريين جميعاً، وهذا الكلام ليس واقعياً، لأنها كانت السبّاقة في التحريض، من خلال اعتبار الثورة ضد النظام فتنة طائفية، و اعتبرت أولئك السوريين، والذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف في الأيام الأولى للثورة، مرتزقة تلقوا مبالغ مالية كي يثوروا.


دعت السلطة للمصالحة وأسست وزارة خاصة للمصالحة الوطنية. لكن وفق مفهومها الخاص، فهي تنظر للمصالحة على أنها الخضوع لها، والاستسلام لإرادتها، لأن أي شيء ما عدا ذلك هو تهديد للحمة الوطنية. وبموازاة ذلك كان خطاب تفكيك المجتمع وتدميره مستمراً، فقد اعتبر رأس النظام أن ثمة بيئة سورية حاضنة للإرهاب، يقدر عدد أفرادها بالملايين. وهذا النوع من الخطاب، والذي يتنافى مع الادعاء بأن النظام يمثل السوريين جميعاً، سوف تتبعه خطابات مختلفة، وربما أكثر تشدداً، سوف يطالب، صحفي وعضو مجلس شعب، على سبيل المثال، بإبادة إدلب، لأنها معقل للإرهاب، وسوف لن تضيّع كاتبة قصة و إعلامية مشهورة الفرصة للتعبير عن سعادتها بقصف المدنيين بالكيماوي في مدينة خان شيخون.


هذه الأمثلة التي تقدمت، تضعنا أمام سؤال، نتردد كثيراً في طرحه على أنفسنا، هل حقاً نحن قادرون على التعايش مع ذلك الآخر، الذي بات بيننا وبينه ثارات و عداوات، وتهديد بالإبادة؟ هل نستطيع الاجتماع في يوم من الأيام على حلم وطني، حتى بعد زوال الديكتاتورية وأدواتها، وما أكثرها؟.


أنا هي آخر أنا هي آخر

الشرخ السوري يزداد اتّساعاً، هذا مؤكد، لكن قصة تلك الأم الثكلى تبقى أكثر تأثيراً، و أكثر قدرة على بثّ مصالحة وطنية حقيقية، بعيداً من الشعارات و التحزّب، والأهم بعيداً من السياسة، التي قد لا تفعل شيئاً سوى زيادة الفرقة والخراب.

أخيراً يقول الشاعر الفرنسي أرتور رامبو: أنا هي آخر. فلو قتل كل واحد آخره، لما عاد هو نفسه موجوداً أبداً.

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!