الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الجيوبوليتيك القاتل للربيع العربي
عماد غليون

يستدعي فهم التحولات الدراماتيكية في مسار الربيع العربي دراسة كافة العوامل التي أثرت في رسم صورة الأحداث وتشكيلها، ويؤدي التركيز على جوانب محددة دون غيرها لقراءة خاطئة ومنقوصة في فهم الأسباب وتفسير النتائج وتصورات المستقبل.




غلب المنهج السجالي العاطفي على معظم الدراسات والأبحاث والتحليلات التي تناولت أحداث الربيع العربي، وتميزت بعض الأعمال بالعمق والمنهج التقريري العلمي وخاصة الأجنبية منها لتوفر عوامل الحيادية والموضوعية وعدم الوقوع تحت تأثير العوامل الذاتية.




لا يهتم الباحثون والسياسيون العرب كثيراً بالدور الهام الذي يلعبه الجيوبوليتيك في العلاقات السياسية الدولية المعاصرة، وشوشت دوافع عاطفية رؤية معارضين وناشطين، وأوقعتهم ضحية التسرع في إطلاق الأحكام، واستسهال إسقاط نظم ديكتاتورية عتية متشبثة منذ عقود بالسلطة بواسطة أجهزة استخباراتية قمعية وأذرع الدولة العميقة، إضافة لدورها وامتداداتها ضمن لعبة المصالح والتوازنات الإقليمية والدولية من الصعب تفكيكها.




اندلع الربيع العربي بزخم قوي ومشاركة شعبية واسعة، وأعطى ذلك انطباعاً قوياً بسقوط وشيك للأنظمة، لكن تدخل القوى الإقليمية والدولية بشكل مباشر أدى لخلط أوراق القوة والتوازنات، وقامت الأنظمة بإدارة صراع المصالح الخارجية مضحية بالسيادة الوطنية من أجل استمرار إمساكها بالسلطة، ولعبت عوامل الجيوبوليتيك دور بيضة القبان التي دعمت بقاء الأنظمة.


 

يعتبر الألماني فريدريك راتزل أول من كتب بشكل منهجي عن الجغرافيا السياسية في نهاية القرن التاسع عشر، وتناول العلاقات بين الجغرافيا أو الموقع والإمكانيات البشرية والاقتصادية والسياسة والحدود، ونشر مقالاً بعنوان القواعد السبعة لنمو للدولة، وهو يرى أن الدولة تشبه الكائن الحي وتطورها مشابه لنظرية داروين في التطور الطبيعي، واستخدم راتزل تعبير الفضاء الحيوي وأن الجغرافيا السياسية تصور الدولة بمثابة كينونة حية مرتبطة بالأرض، وبمثابة جهاز متغير مع حركة التاريخ، بينما يهتم الجيوبوليتيك بمشكلات المستقبل ويبحث عن مبررات تنفيذ أهداف السياسة في الصراع بين الدول للسيطرة على الأراضي.




يمكن الإشارة لكتاب جيوبوليتيك الربيع العربي الصادر عام 2014 عن دار المطبوعات الجامعية في فرنسا، للكاتب الفرنسي المختص في أبحاث الجيوبوليتيك فريديريك أنسل، الذي قدم مؤلفات حول جيوبوليتيك الشرق الأوسط والقدس، وفي مقدمة الكتاب طرح التساؤل حول ضرورة كتاب يتناول جيوبوليتيك الربيع العربي، بينما طرح في الفصل الأول موضوع العرب والربيع: العالم العربي وأزمة الهوية، وكرّس الفصل الثاني لدراسة طبيعة ومسار الربيع العربي، وبحث عما كشفه الربيع العربي في الفصل الثالث، وفي الفصل الرابع ناقش المؤلف فرضيات واستشراف للمستقبل.




على مر التاريخ عانت الأراضي العربية، ولأسباب تتعلق بالموقع الفريد والمكان الغني بالثروات بالدرجة الأولى، من تأثيرات قاسية للجغرافية السياسية، وشهدت صراع امبراطوريات الروم والفرس، وبعد تأسيس العرب دولتهم الأولى في صدر الإسلام، كان من الطبيعي أن ينطلقوا للتوسع وتكريس الفضاء الحيوي لدولتهم، لكن العرب تراجعوا بعد ذلك عن القيادة وباتوا خاضعين لهيمنة قوى خارجية، وبعد أربعة قرون من السيطرة المستمرة انتهت الدولة العثمانية، وجرى تقاسم تركة الرجل المريض بين فرنسا وبريطانيا ورسم الحدود وتشكيل دول المشرق العربي وفق اتفاقية سايكس بيكو قبل نحو قرن من الزمن، وكانت الغاية وراء ذلك ضمان استمرار السيطرة والهيمنة الأوروبية، وتم تحطيم الفضاء الحيوي العربي المشترك من خلال وعد بلفور وإنشاء دولة اسرائيل في قلب العالم العربي.




مع بداية الألفية الثالثة برزت مشاريع غربية عديدة لتكريس الهيمنة الغربية، سواء في إعادة رسم خرائط سايكس بيكو من جديد مع مراعاة المصالح المستجدة للغرب، أو من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحته أمريكا، لتوسيع الفضاء الحيوي لإسرائيل ودمجها في محيط أوسع، وظهرت في هذا الإطار دراسة برنارد لويس حول إعادة تشكيل الشرق الأوسط.




بقيت الحدود العربية المصطنعة متحركة وغير مستقرة، وصعب ذلك مهمة بناء الدولة الحديثة وتشكيل الهويات الوطنية، وتفاقمت الأزمات الوطنية مع استغلال الأنظمة أحداث الربيع العربي لتكريس هيمنتها وسلطتها، وقامت بمواجهة عنيفة ضد الانتفاضات الشعبية التي وسمتها بالمؤامرة الخارجية.




تحكمت المصالح وموازين القوى الإقليمية والدولية في مسار الثورة السورية، وكان ضمان أمن اسرائيل العامل الحاسم طيلة مسار الأزمة هو المؤثر في تعويم نظام الأسد من خلال تنظيم العلاقات والمصالح المتشابكة على الأراضي السورية، وقد استغلت إيران فرصة ترنح النظام للتدخل المباشر ووضع قدمها من خلال نشر التشيع في دمشق العاصمة العربية الرابعة، وتحت ستار تصفية التنظيمات الإرهابية الكردية تدخلت تركيا وقامت بالتوسع لضمان أمنها القومي، وكان ملف الإرهاب واللاجئين في مقدمة اهتمام الغرب ضمن الملف السوري، بينما شكل إنقاذ النظام من السقوط مدخلاً لعودة روسيا للمياه الدافئة وإقامة قواعد عسكرية جوية وبحرية ومن ثم الهيمنة على مقدرات الدولة السورية واستغلال الثروات الباطنية من غاز وبترول، واتسع نطاق التدخل الدولي بشكل واسع وغير مسبوق في الملف السوري.




دفع الشعب السوري ثمناً باهظاً للجيوبوليتيك المميز الذي لعب دوراً قاتلاً للثورة السورية، ولم ينفع السوريين الموقع الجغرافي الفريد لبلادهم ولا الإمكانيات الاقتصادية المتنوعة الغنية، وتحول الارتفاع العالي في معدلات النمو السكاني ليشكل تهديداً لدول الجوار، ونشرت العديد من الأبحاث حول أسباب عديدة للتدخلات في الملف السوري، منها اقتصادية تتعلق بتمرير مشروع خط الغاز القطري.




من الصعب تخلص السوريين من تأثير عوامل الجيوبوليتيكا المعقدة في تحديد مصيرهم ومستقبلهم، وعليهم تقليص عوامل التدخل الخارجي في دولتهم القادمة وتأسيسها على مبادئ الحياد، وينبغي قبل ذلك تحقق التوازن بين مصالح الدول المتداخلة ودفعها للانسحاب جميعاً خارج الحدود والحصول على الاستقلال السوري الحقيقي.


كاتب واعلامي سوري

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!