-
الوطن في الهاوية

منذ الثامن من كانون الأول وحتى الرابع من أيار 2025، كان السوريون يتابعون أخبار الغارات الإسرائيلية على الجنوب، كأنها نشرة طقس اعتيادية.
لا أحد توقف ليسأل: كيف وصلت سوريا إلى هنا؟ كيف صار الجنوب مسرحًا لتجريب الأحلام الإسرائيلية الكبرى، وواجهةً لحروب بالوكالة تحت رايات الطوائف والميليشيات؟ كيف انهار الجدار الأخير من الوحدة الوطنية، ولم يبقَ من الوطن سوى اسمه على خرائط المفاوضين والمستثمرين؟
إن ما يحدث اليوم ليس تفصيلًا عابرًا في المرحلة الانتقالية بعد سقوط الأسد. إنه ملامح حرب أهلية تتشكل أمام أعيننا، ولا أحد يجرؤ على وقفها. بدأت في مدن الساحل والأن في السويداء، المدينة التي حفظت روح الثورة يوم أُطفئت في كل مكان، تُخنق آخر أنفاس الصوت الحر باسم “المطالب المشروعة” حينًا، وباسم “الهيبة” حينًا آخر، وباسم “الدولة” التي لا نعرف شكلها ولا دستورها ولا عدالتها.
في الخلفية، حكومة أحمد الشرع، التي تشكّلت من قلب الانتصار على الطغيان، تتصرف اليوم كنسخة منقحة عن نظام الأسد. الفرق ليس في القمع، بل في التبرير. تلك الحكومة التي استبشر بها ملايين السوريين، تخلّت عن الحوار، وذهبت إلى التصعيد ضد السويداء، تُصوّب نارها نحو دروز جبل العرب تحت غطاء من التحريض وشيطنة الأقليات، وتُعيد تدوير خطاب "الإرهابيين والعملاء وأتباع النظام السابق والانفصاليين"، ولكن بأسماء جديدة ورايات دينية.
لم تعد المسألة درزية أو علوية، ولا حتى طائفية فقط. المسألة هي شكل الدولة السورية القادمة: دولة العقد أم دولة السطوة؟ دولة المواطن أم دولة الغلبة؟ إذا كان المشروع الجديد يحاكي سلطة الأسد من حيث البنية والعقيدة والسلاح والتخوين، فما الذي تغيّر إذن؟ وهل كان سقوط النظام إلا استبدال اسم الجنرال بصاحب اللحى؟
في هذا الفراغ، تتحرك إسرائيل بثقة غير مسبوقة. الغارات على جبل الشيخ، والقنيطرة، وريف دمشق، ودرعا، ليست فقط "رسائل ردع" كما يقال. إنها اختبارات حقلية لإعادة تشكيل جنوب سوريا سياسيًا وجغرافيًا. الحديث الإسرائيلي عن حماية الدروز ليس إلا ستارًا لرسم حدود أمنية جديدة، تذكّرنا بمشاريع "جيش لحد" و"المنطقة الآمنة"، بل بمخطط "ممر داوود" الذي يبدأ من الجولان ولا ينتهي إلا في كردستان العراق. بين الدعوة لحماية الأقليات وتفكيك الجغرافيا، تقف إسرائيل كفاعل واثق، مدعوم أميركيًا، بلا كلفة ولا رد.
وفي الجهة الأخرى، لا تبدو تركيا بعيدة عن الحفل الدموي الجاري. فهي تعزز وجودها العسكري شمالًا، وتدفع في الجنوب بخيوطها السياسية، وتُفاوض تحت الطاولة لتوسيع مناطق نفوذها. ترفض أن تترك الفراغ لإسرائيل، وتسعى لأن تكون ضامنًا ضمنيًّا لأي خرائط جديدة، لا سيما إن كان الجنوب هو "المنطقة الوحيدة" التي لم تحسم ولاءها بعد. ما يجري ليس فقط انهيارًا داخليًا، بل سباقًا خارجيًا على ما تبقى من وطن.
أميركا، كما اعتدنا، لا تدعم بناء الدول، بل إدارة الفوضى. تحرّكها ليس من أجل العدالة، بل من أجل التوازن. تُعطي لإسرائيل ضوءًا أخضر باسم "الأمن القومي"، وتغضّ النظر عن تطرف بعض فصائل حكومة الشرع، وتُبقي على قاعدة التنف كنقطة تحكّم في خطوط النقل والربط الإقليمي، لا لمنع الحرب بل لتنظيمها.
أما الداخل السوري، فقد بات جاهزًا للانفجار. كل الشروط المسبقة لحرب أهلية كبرى تكتمل: خطاب التخوين، تحريض إعلامي، اقتتال مناطقي، اجتياحات، غياب العقلاء، تصفيق جماعي للمحرقة القادمة. كل طرف يتهيأ لـ"حسم معركته" ضد الآخر، دون أن يفكر لحظة بما تبقّى من سوريا. والدماء تتهيأ لتُسال في القنيطرة وصحنايا ودرعا، ثم في إدلب وحلب ودير الزور، لأن النار لا تعرف الحدود حين تبدأ، ولأن البارود لا يفرّق بين سنّي ودرزي وعلوي وكردي وبدوي.
السوريون الذين حلموا بالحرية ذات ربيع، صاروا اليوم يُحرّضون بعضهم بعضًا على القتل، باسم "استعادة الدولة"، أو "الدفاع عن الكرامة"، أو "التطهير من الانفصاليين". كأننا لم نتعلم شيئًا. كأن كل ما جرى خلال أربعة عشر عامًا من الثورة والتهجير والمجازر لم يكن كافيًا لفهم معنى التعايش.
هل هذا ما قاتلنا من أجله؟ أن نُسلّم الجنوب لإسرائيل، والشمال لتركيا، والشرق لميليشيات معولمة، وأن تكون دمشق محكومة بفصيل راديكالي لا يرى في المواطن سوى "تابع" أو "كافر"؟
هل هكذا كنا نحلم أن تكون سوريا الجديدة؟
مجرد رقع جغرافية تابعة للممولين، تتقاتل باسم "الهيبة" أو "التحرير"، بينما لا هيبة ولا تحرير ولا وطن؟
الجنون اليوم له أسماء: الهجري، الجولاني، المتعصبون من الطرفين، إعلام الفتنة، شيوخ العشائر الذين يصمتون، مفكرو الصالونات الذين يباركون قمعًا ناعمًا باسم "المرحلة الحرجة". أما العقل، فصار تهمة. والحكمة تُعتبر ضعفًا. وكل من يدعو للتفاوض، يُتّهم بالخيانة. نحن نذبح الوطن بأيدينا، ثم نتلو عليه آيات النصر.
ولكننا لسنا عبيد هذه اللحظة. ليس هناك طريق حتمي نحو التفكك. ما زال في الإمكان أن نستفيق.
أن نقف معًا، سُنّة وعلويين ودروزًا واسماعيليين وشيعة وبهائيين، كردًا وعرباً وأشوريين وأرمن وسريان وكلدان وتركمان وشركس وسامريون وايزيديون، حضر وبدو وقبائل وعشائر، مسيحيين ومسلمين وملحدين، لنقول بصوت واضح: لا للسلاح، لا للفصائل، لا للهيمنة الإسرائيلية، لا لإعادة إنتاج الطغيان.
نعم لسوريا الحرة، العادلة، الواحدة، التعددية، المدنية. نعم للدولة التي تصون حق الاختلاف، وتحمي حق الحياة، ولا تُقدّس السلطة بل تُقدّس الإنسان.
إن لم نفعل ذلك الآن، فإن اليوم لن يكون فقط تأريخًا لانفجار الجنوب، بل البداية الرسمية لتقسيم سوريا.
ولعنة التاريخ لن ترحمنا حين نسأل: أين كنتم وأنتم ترون وطنكم يُباع قطعة قطعة؟
الوقت لم ينتهِ بعد. لكنه يلفظ أنفاسه. والصرخة الأخيرة ما زالت ممكنة. اسمعوها.
سوريا ليست حقل تجارب ولا غنيمة طوائف. سوريا وطن للجميع أو لا شيء.
شادي عادل الخش
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!