الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • عندما كنا في حلب.. اعتقلنا لأننا صرخنا “حرية”

عندما كنا في حلب.. اعتقلنا لأننا صرخنا “حرية”
3232

يرتجف صوتي عندما أحاول سرد قصتي الّتي تتشابه مع عدد لا يحصى من رجال، نساء، وأطفال، ممن ذاقوا شتّى أنواع التعذيب والترهيب منذ أن خرج الشّعب السوري ناشداً الحرية، مُطالباً بحياة عادلة، حياة تخلو من الظلم والطّغيان، آملين أن يصلوا الى أبسط حقوقهم، متمنين زوال الأسى والظّلم من حياتهم، يحلمون بحياة أفضل يعيشون فيها دون خوف ولا معتقلات. حلب


لكنها كانت بدايةً لرحلة مريرة ستضاف إلى آلاف القصص والحكايات ومذابح والمجازر التي نكّلت بالشّعب السّوري، سيحاسب التّاريخ كل من وقف صامتاً من هذا العالم أمام مقتلة الشّعب السوري، هذا العالم الذي كان شاهداً على الإبادة والتهجير والاعتقال والموت تحت التعذيب، هذا القهر والخذلان الذي حُفِر في قلب كلّ شخصٍ كُتِب عليه أن يكون سوريّاً، لكنهم مازالوا ينتظرون شروق الشمس في ذات يوم لتبتسم في وجوههم معلنةً انتهاء الحرب ومشيرةً بالنّصر لهم.


على الرغم من بساطة المشهد في بداية الثورة، إلا أنّ القبضة الأمنية لنظام الأسد وشبيحته كانت تُفشل كل الترتيبات التي نحاول العمل عليها أنا وابن عمي محمود دحدوح، الذي استشهد برصاص قناص غادر، في خريف 2013، كنا نحاول البحث عن مظاهرة في مدينة حلب بعد التنكيل بمدينة درعا التي خرجت بالمظاهرات ضد طغيان النظام، نحاول البحث في أحياء حلب يومياً عن مظاهرة هنا أو هناك، وبشكل خاص عقب صلاة الجمعة، كنا نعود يائسين، فلا مظاهرات تخرج في حلب رغم الكم الكبير من القهر الذي يمارسه النظام على الشعب، لكن كما ذكرت، القبضة الأمنية الحديدية وقطعان الشبيحة كانت تحول دون خروج مظاهرة حقيقية حيث لا تخلو بعض الأحياء من تحركات خجولة سريعاً ما تنفضّ بسبب الشبيحة.


الدكتور “محمد بشير عرب” _والذي بات مصيره مجهولاً منذ اعتقاله إلى يومنا هذا_ اسم لن أنساه ما حييت، تعرّف عليه ابن عمي محمود خلال عمله الوظيفي، كان له نفس الهمّ، مناصرة أهلنا في درعا والثورة ضد نظام الفساد والاستبداد، بتنا نلتقي في منطقة (ساعة باب الفرج) كونها في وسط مدينة حلب التجاري لعلّنا نستطيع القيام بمظاهرة ونحاول جمع أكبر عدد من أصدقائنا، تحولت هذه اللقاءات إلى جلسات تخطيط للمظاهرات، انتقلت جلساتنا إلى منزل الدكتور “أبو مازن” نحاول التفكير بطريقة لجمع الأشخاص الذين يريدون التظاهر، ولكن مع الأسف الشديد في بداية مسيرتنا كان معظم الأشخاص الذين وثقت بهم وأشخاص أعرفهم جيّداً يرفضون دعوتنا بحجة الخوف من بطش النظام، شعرت بالإحباط والانزعاج بداية الأمر، لكن سرعان ما  تفهمت خوفهم الشديد.


اجتمعنا نحو عشرة أشخاص، وربما أقل، خططنا كيف ستكون مجريات المظاهرة على الورق، دوّنا مطالبنا والشعارات التي سنرددها في المظاهرة، وكذلك الأناشيد، وأخيراً وضعنا خطة للهرب في حال تمّت مداهمتنا من قبل نظام الأسد، لكن للأسف لم تدم طويلاً هذه المظاهرات المتواضعة بسبب الأعداد الكبيرة للشبيحة وعناصر الأمن المنتشرين في وسط حلب وأحيائها، غيّرنا خطتنا وأصبحنا نذهب يوميّاً خلال شهرٍ كامل إلى جامع (سكّر) ولم نتمكّن من الخروج بمظاهرة.


لم نفقد الأمل، وبدأنا بالتعاون مع تّنسيقيات الثورة، الّتي كانت تخرج من مسجد “آمنة” في حي سيف الدّولة، واتّخذنا قراراً حاسماً بالخروج في المظاهرة المعروفة والشهيرة في حلب، مظاهرة الجميلية، ضمن منطقة تجارية تسمّى “عبّارة السّيديّات” وهناك تماماً احتشدت عدّة تنسيقيّات، وخرجنا بمظاهرة كبيرة، استطعنا من خلالها كسر حاجز الخوف عند الجميع، ولكن في نهاية المظاهرة اعتقل ثلاثة منّا وأصبحوا بيد القوات الأمنية.


فيما يبدو، أنّ تلك المظاهرة كانت الشرارة التي فجّرت سيل المظاهرات في مدينة حلب، وأصبحنا نخرج بشكل شبه يومي، حتّى مظاهرة جامع الحسن والحسين، في يوم الجمعة، وبعد أن انفضّت المظاهرة، جاء الأمن والشّبيحة، عندها ركبت في سيّارة أُجرة مسرعاً الى منزل عمي، عندما سألني عن ابنه، لم أستطع فعل شيء عندها، انتظرنا ساعات ولم يعد محمود إلى المنزل، فأدركنا أنّه قد اعتقل أثناء المظاهرة، فطلب مني عمي مغادرة المنزل والتواري عن الأنظار ريثما تتوقف ملاحقتي من قبل الأمن.


في منتصف حزيران 2011، داهم بيتي ستة عشر عنصراً من الأمن مدججين بالسلاح، واقتادوني إلى فرع الأمن العسكري بعد تفتيش منزلي، واضعين عصابة سواء على عيني، وما إن دخلت حتى بدأ الضرب والإهانات والشتائم بكل أنواعها فيما يسمى بـ(حفلة الاستقبال)، ثم رموا بي في منفردة لا تتجاوز مساحتها المتر مربع وسط ظلام دامس، فلم أستطع أن أرى شيئاً سوى الظلام القابع في تلك الزنزانة، هالني الموقف جداً، فأنا لم أدخل السجن سابقاً، وهو ما جعل القلق والخوف يستلّل إلي، حتى اعتقدت أنّها النهاية ولا مفرّ منها، رفعت سبابتي ونطقت (بالشّهادة لله) وأنا في يقيني أني لن أخرج من هذه المنفردة إلّا ميّتاً، كانت أياماً ثقلية أتنقل بين فرع الأمن العسكري والسجن للتحقيق معي حول (جريمتي في التظاهر) وكنت في كل مرة أُضرب وأهان حدّ الإغماء.


بعد مدّة من الزمن، نُقلت الى السّجن المركزي، وكانت المفاجئة، ابن عمي محمود والكثير من شباب المظاهرات، حيث كان بينهم الشخص الذي وشى بي للأمن، غضبت في البداية ولكن من شدة التعذيب الذي تعرّض له، اضطر للوشاية، فعذرته وعدنا أصدقاء.


اثنان وعشرون يوماً من التعذيب والتحقيق، كانت كافية لأشعر أنّ  خروجي من السجن كأنّها ولادة جديدة، كنت في حالةٍ يرثى لها، جسدي كله كدمات والجروح، اثنان وعشرون يوماً هي فترة ليست طويلة لكنّها كفيلة بجعلك تخرج شِبه ميت، وكأنك كنت تحت سياط التعذيب لأعوام.


التعذيب الذي ترك أثره في نفسيتي جعلني مصراً أكثر على الثورة، وواصلت الخروج بمظاهرات وبعد نحو شهر في مظاهرةٍ حيّ الصّاخور ، وكنت يومها أحمل لافتةً كُتب عليها “ثوري يا حلب ثوري هزّي القصر الجّمهوري” ومع انتهاء المظاهرة طوقتنا قوة أمنية كبيرة، كان ابن عمتي، لديه شاحنة صغيرة (سوزوكي) وأخبرته أنه علينا الهروب بعدد ممكن من متظاهرين، امتلأت السيارة تماماً وقاد ابن عمتي الشاحنة مسرعاً، لكن السيارات الأمنية كانت أسرع وأكثر عدداً، واستطاعوا القبض علينا جميعاً خوفاً من قتلنا فيما لو حاولنا الهروب مجدداً، ونقلنا إلى فرع المخابرات الجويّة، حينها داهمني يقين آخر أنّي لن أرى نور الشّمس مرة أخرى، وهذا ما أكده لي أيضاً المحقق في فرع المخابرات الجويّة.


أمضيت نحو شهر ونصف، شهدت خلال هذه الفترة كل أنواع التعذيب والإهانات حتى بات النوم أمنية عظيمة من شدّة التّعذيب، كانت طرق تعذيبهم مُذِلّة وتخلو من الإنسانيّة تماماً، وهناك أشخاص كثر ماتوا أمام عيني من هول التّعذيب الّذي لم تحتمله أجسادهم، كان الأمر سيّان بالنّسبة لنظام لا يعرف من الحياة سوى رائحة الدّم والقتل، فحتّى لم يكترثوا لجثامينهم المغطاة بالدّماء.


لا يزال صدى صوت أمّي يخترق رأسي وقد صرخت بحرقةٍ عندما رأتني بتلك الحالة، كانت دموعها لا تتوقف، لم أستطع حتّى أن أطمئن قلبها وأخبرها أنّي عدت من هذا الحجيم، كانت عودتي مستحيلة فقد كانوا يقومون بخطّة التّعذيب حتّى الموت التي يذوقها كل معتقل هناك إلّا إذا شاء الله خروجه.


لم أستسلم، واصلت الخروج مع تنسيقيات في مدينة حلب (أحفاد الكواكبي)، (شباب ثورة حلب)، (المجلس العام لقيادة الثورة في حلب) ويوماً بعد يوم كانت الأوضاع تميل الى الأسوأ، وكان لابد من تغطية انتهاكات النظام بشكل أكبر، ما جعلني أنضم للمجموعة الإعلاميّة وأصبحت أعمل على تصوير وإرسال ونشر المظاهرات الّتي أقوم بتصويرها، وفي كل مرة يأتي بها الأمن إلى الصاخور أهرب منها خوفاّ من الاعتقال مرة الثالثة، ولكن للأسف كان قرار خروجي من حلب باتجاه الجزائر صعباً جداً لكن البلاغ الذي وصلني يفيد أن عليّ حضور محكمة لإنهاء أمري شعرت حينها أن الأمر ذاهب إلي النهاية فغادرت حلب مرغماً. 


بعد فترة وجيزة عدت إلى حلب ولكن هالني تردّي الأوضاع المعيشية بشكل كبير، مع إحكام النظام قبضته الأمنية وقطعان الشبيحة التي باتت تستبيح شوارع المدينة، خلال فترة مغادرتي حلب كنت ألوم نفسي على هذا الهروب على الرغم من مبرراته، إلا أنّه في نهاية المطاف كان قرار مغادرة حلب إلى تركيا، قراراً صعباً ولكنه الوحيد.  


حكايتي هذه ماهي إلّا بضعة أسطر من معاناة الشعب السوري، ماهي إلّا كأس من بحر واسع من الألم والظلم والقهر والحزن والمعاناة التي لازال الشعب السوري يتلقّى جرعاً هائلة منها حتّى اليوم، وفي اللحظة التي تقرأ بها سطوري، هناك آلاف المعتقلين عند نظام الأسد منهم من طال بقاءه سنيناً، منهم من يصرخ الآن راجياً تخفيف هذا العذاب.


ليفانت – سامر دحدوح 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!