الوضع المظلم
الجمعة ١٠ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
المسافة بين الأقوياء والضعفاء
الصداقة بالمفهوم السياسي

الكاتب عبد الناصر حسين


لا شك أن العقلية العملية أفضل بكثير من العقلية التنظيرية، فالذين يمضون أوقاتهم في تحليل الظواهر والأحداث والقضايا عادة يصلون إلى حائط مسدود وربما يختلفون كثيراً فيما بينهم، لأن دائرة التحليل واسعة جداً وفقاً لمشارب الناس ومذاهبهم وتلقيهم الثقافي الأول، لكن دائرة الحلول أضيق بكثير من الأولى.




لو نشب حريق في مؤسسة يملكها عدة شركاء وانقسم الشركاء إلى فريقين فريق اجتمع ليبحث في أسباب اندلاع الحريق وراح يحلل مساراته ومتجهاته، وفريق آخر استجلب أدوات الإطفاء من خراطيم مياه واسطوانات وسلالم.. وشرع في إطفاء الحريق، ثم نجحوا في ذلك، عندئذ سيستنتج الجميع أن الفريق الثاني هو الأكثر نفعاً والأرجح وعياً من الفريق الأول، مع الإقرار باحتياج أي عمل للتخطيط والتنظير لكن احتياجنا لطرح الحلول أكبر من احتياجنا لتحليل الظواهر.




وفي «الثورة السورية» غلب على النخب المعارضة الطريقة التنظيرية في التعاطي مع الحدث الكبير، ودفعت بالبعض إلى نبش قبور التاريخ واستحضار مستحاثاته، لتفسير ظاهرة حديثة الولادة، وكان الأجدر هو البحث عن حلول وعلاجات عاجلة ووضع خطط ساخنة، حتى لا يضيع الوقت عبثاً وتبدد الجهود هدراً وتنشب الخلافات بين الفرقاء.




وفي الحديث عن الحلول لا شك أن هناك قوائم سيتم اقتراحها من قبل المهتمين بالشأن العام لكن المؤكد هو أن جوهر الحلول ومركزها يتلخص بكلمة واحدة هي «القوة»!. القوة بكل أنواعها. فبعض المرضى يترددون على العيادات الصحية يشتكون من أمراض شتى، وكلما عالجوا مرضاً وقعوا في مرض آخر، وهم لا يدركون السبب الأساسي وراء كثرة زيارة الأمراض لأجسادهم، وهو الضعف العام الذي أصابهم، ولو أنهم استمعوا إلى نصيحة مدرب اللياقة الرياضية والتزموا بكورسات تدريبية محددة لصارت أمراضهم من ذكريات الماضي ولطووا صفحة الشكوى التي لا تنتهي.




هذا الكلام ينطبق تماماً على واقع الثورة السورية التي عانت وتعاني ضعفاً شديداً في جوانب عديدة، ومن أعراض هذا الضعف التفكك والتفرق، وسهولة الاختراق والانزلاق، وكثرة الاستجرار وضعف القرار. وكل تلك الأعراض علاجها هو «القوة» فكراً ووعياً وسياسة وإعداداً.




اعتاد الضعفاء أن يتعاملوا مع أي استحاق يواجهونه بالدهشة والذهول وردود الفعل المرتجلة، وعندما يكون الاستحقاق أمراً كبيراً أو خطراً داهماً لا يصح مطلقاً مواجهته بالإمكانات الحاضرة والطاقات المتوفرة، ولا بد من عمليات تأهيل مناسبة وعمليات تطوير وتنمية تتناسب والحالة المستجدة.

لكن الذي يحدث هو أن الضعفاء لا يتجهزون للمفاجآت.. ولا يخططون للقادمات.. ولا ينظمون صفوفهم.. ولا يبرمجون أعمالهم.. فينفعلون ولا يفعلون ويتأثرون ولا يؤثرون.




الضعفاء ينشغلون بترميم بنائهم المتصدع وتضميد جرحهم النازف وإحصاء خسائرهم وكل ذلك بسبب ضعفهم دون أن يفكروا بمعالجة أصل المشكلة وهي الضعف المستحكم بهم، وقد يؤدي الانهماك بعلاج آفة إلى إنتاج آفات أخرى حتى لو كانت الوصفة العلاجية صحيحة.




فالكيان الضعيف يستدعي مزيداً من الضعف، ويستجرّ كثيراً من العجز، وبالمقابل فإن الكيان القوي يلتقط مزيداً من القوة ويجتذب كثيراً من المَنَعَة، فالقوة هي العلاج الأفضل لكل داء وهي الحل الأمثل لكل مشكلة.

المسافة بين الضعفاء والأقوياء واسعة وتزداد اتساعاً ما دام الفريق الأول متمترساً بضعفه، والعلاقة بين الفريقين جدلية فضعف الضعفاء يمنح الأقوياء قوة مضافة وقوة الأقوياء تمنح الضعفاء مزيداً من الضعف.




الضعفاء يخسرون حتى وهم يكسبون!. فهم منشغلون بالمعارك الصغيرة في الأماكن الضيقة، نازفين ما لديهم من طاقات ويفرحون بكسب بعض النقاط في زاوية حادة من ميدان الصراع، لكنهم يفقدون الكثير في مكان آخر، يفقدون ما هو أكثر أهمية وتأثيراً.

والأقوياء يكسبون حتى وهم يخسرون!. لأنهم يحرصون على كسب النقاط الحاسمة في المكان والزمان الملائمين، متجاوزين بعض الخسائر والهزائم الناعمة.




الأزمة الحقيقية لدى الضعفاء تتعلق بالرؤية الخاطئة الخادعة عندهم، فهم يرون كل النوازل واقعة عليهم، لأنهم رضوا بالإقامة في الأماكن المنخفضة وفيها يظن الضعفاء أن أي ساقطة تستهدفهم وتتقصدهم، علماً بأن كثيراً من النوازل تصيبهم لمجرد أنهم واقعون في المستوى الخفيض من الحدث.




يشكو الضعفاء من انعدام الفرص وفقدان الحيل، ويتهمون الآخرين بتعمد الإضرار بهم ومنعهم من التمنفع بأية فرصة. لكن السبب وراء ذلك يكمن في التموضع في المكان الضيق، والتقوقع على برامج عتيقة، ولو فكر الضعفاء للحظة واحدة بالتحرر من ضيق الهوامش وقلة الخيارات لانفتحت عليهم آفاق كثيرة وفرص وفيرة.




يحسب الضعفاء أن الجميع يستهدفهم وكأنهم هدف لكل رماية، لكنه وهم مستحكم في ذهنيتهم، فالخلل في تموضع الضعفاء في مرمى الآخرين الباحثين عن مصالحهم والمتصيدين لفرصهم، والسؤال هنا موجّه للضعيف: لماذا أنت تجعل من نفسك هدفاً للخصوم.. ولماذا تقدم نفسك فرصة للمتربصين؟.




خيارات الضعفاء محدودة، ما بين السيء والأسوأ، والعاقل منهم من يأخذ بالخيار السيء ويتحاشى الخيار الأسوأ، بينما تنفتح خيارات الأقوياء على الحسن والأحسن، والحكيم في الأقوياء هو الذي يترك الخيار الحسن ويختار الأحسن.




هي الرؤية الخاطئة إذاً حيث يرى الضعفاء أن الجميع يتآمرون عليهم ويستهدفونهم بالمؤامرات، وتلك الرؤية تدعوهم لمزيد من العزلة والانغلاق والعقد الفكرية والنفسية، الأمر الذي يجلب لهم مزيداً من المضرات والضربات، فيزداد إيمانهم بـ «نظرية المؤامرة» التي يرون من خلالها كل الأشياء قاتمة معتمة، حتى المنافع والمصالح يشككون بها باعتبار العالم لا يمكن أن يقدم لهم أي خير أو منفعة.. فالضعفاء يحسبون معظم العالم منشغل بالتخطيط للكيد بهم.. بينما الأقوياء يعتقدون أن جزءاً كبيراً من العالم مهتم بالتمصلح بهم.




الأمر الكارثي في ضعف الضعفاء يكمن عندما يرى الضعفاء في الفرقة والهزيمة والمحنة والفشل خيراً خالصاً!. على اعتبار تلك المصائب تقع على الأولياء الصالحين ولا يرونها تصيب الضعفاء المساكين. فلو رأى الضعيف ضعفه لابتدر إلى معالجته، لكن الفاجعة أن يرى أنه صار بمصاف الأولياء حين تصيبه النائبات، فكيف يسعى لترميم ضعفه من كان يرى نفسه بمقام الأنبياء الأخيار، والأولياء الأطهار؟.. هو الانفصام ذاته الذي يصيب من لا يعرف حقيقة ذاته.. فبينما هو قابع في حضيض ضعفه يتوهم أنه في قمة حالاته.




من غاب عن تحصيل مصالحه فلا يعتب على المجتهدين في تحصيل مصالحهم، والعاكفين لإنجاز أهدافهم، والأمر بين الناس تدافع، والغلبة للأقوى. المشكلة الحقيقية ليست في الضعف بحد ذاته بل في «ثقافة الضعف» والحل المستدام ليس بالقوة بحد ذاتها بل بـ«ثقافة القوة».. والتاريخ لا يرحم الضعفاء المتفرقين.. ولا يعذر الدراويش المتخلفين. والعالم لا يحترم إلا الأقوياء المتماسكين.. والجدل الحقيقي هو كيف نبني قوتنا التي نبني بها مجدنا ونصنع نهضتنا؟.

المسافة بين الأقوياء والضعفاء المسافة بين الأقوياء والضعفاء المسافة بين الأقوياء والضعفاء

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!