-
حروبهم المقدّسة أفسدت أيامنا المقدسة
إنها واحدة من الأوقات النادرة التي يحتفل فيها أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، في توقيت واحد بمناسبات مقدسة ذات أهمية روحية كبيرة لكل منهم. إلا أن ما يسمى بـ "الحروب المقدسة"، والتي يحلو لبعض السياسيين المتطرفين إطلاقها، بين الحين والآخر، عن طريق تأجيج الكراهية بين أتباع الأديان المختلفة، بهدف كسب التأثير الاجتماعي أو الحشد السياسي لأنفسهم، تدخلت بشكل مؤلم لتحرم سكان الأرض من اختبار تلك اللحظة الروحية الفريدة التي نمرّ بها هذه الأيام.
منذ بداية شهر أبريل يحتفل المسلمون بشهر رمضان بالصوم طوال النهار والصلاة معظم الليل، لتحرير أنفسهم من العالم المادي والوصول إلى الارتقاء الروحي. وهذا الأسبوع، في عيد الفصح، يحتفل المسيحيون بقيامة يسوع عقب أربعين يوماً من الصوم الكبير. في نفس الأسبوع، يحتفل اليهود بعيد الفصح، بتذكر تحررهم من العبودية، عقب أسابيع من الصيام والتأملات الروحية العميقة.
بتأمل القصص التاريخية وراء هذه الاحتفالات، سنكتشف أن لجميعها معنى موحد، يتمثّل في حقيقة أنه بأيدي البشر تماماً جعل عالمهم قطعة من الجحيم، عن طريق إشاعة الكراهية بينهم، أو أن يجعلوه قطعة من الجنة، عن طريق نشر الحب وقبول اختلافاتهم. في جميع الأديان التي يعتنقها البشر -سواء كانت إبراهيمية أم لا- هناك تعاليم مشتركة، على رأسها وأهمها على الإطلاق، هو أن يحب البشر بعضهم البعض لأن جميع البشر سواء مهما كانت اختلافات ألوانهم أو أشكالهم أو أديانهم. لا أحد أفضل ولا أحد أدنى، "التنوع نعمة" و"الاختلاف رحمة" لن تجد كتاباً مقدساً يخلو من هذه الجمل.
رغم ذلك، على مر التاريخ، برزت أمثلة مشينة لسياسيين أساؤوا استخدام الدين لتبرير الحروب التي حصدت الآلاف من الأرواح البريئة وخربت مئات المدن، واصفين اعتداءاتهم الشيطانية بأنها عمل اضطراري من أجل الدفاع عن دينهم أو "الدفاع عن الله"، وكأن الله العلي القدير ينتظر من البشر أن يقتلوا بعضهم دفاعاً عنه.
كان هذا هو الحال في مصر القديمة، عندما استهدف فرعون موسى وأتباعه تحت شعار الدين، بينما كان هدفه الدفاع عن عرشه، وكذلك كان حال الرومان القدماء الذين استهدفوا يسوع وأتباعه بعد أن اعتبروهم تهديداً لسلطتهم السياسية. بعد ذلك بعدة قرون، انطلقت الحروب الصليبية تحت نفس الشعار "الجهاد المقدس". وحتى في أيامنا الحالية، تستخدم التنظيمات الإرهابية الإسلامية نفس الخطاب الديني الملتوي لتبرير قتل وترهيب المدنيين الأبرياء في أرجاء الأرض.
على الرغم من أننا لم نعد نعيش في العصور المظلمة، وعلى الرغم من وجود عدد لا يحصى من القوانين المحلية والدولية التي تجرم جميع أشكال التمييز والعنصرية، لا سيما على أساس الدين والمعتقد، إلا أن بعض السياسيين ما زالوا يستخدمون الدين وسيلة لكسب النفوذ. هذا لا ينطبق فقط على جماعات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط التي تحشد أتباعها تحت راية الدين منذ عقود. ولكن حتى في أوروبا، حيث احترام حقوق الإنسان أمر غير قابل للتفاوض، فإن بعض السياسيين، وخاصة من الجناح اليميني المتطرّف، يروّجون بلا خجل لكراهية المسلمين، معرضين حياة ملايين المسلمين في أوروبا للخطر كل يوم، بهدف اكتساب شعبية بين مواطنيهم، الذين يعيشون في حالة من الفزع يمكن تفهمها جراء ما اختبروه على يد التنظيمات الإرهابية الإسلامية في السنوات الأخيرة. لكن، مع الأسف، فإن ضحايا هذا التمييز والعنصرية هم في أغلبهم مسلمون مسالمون لا علاقة لهم بالمتطرفين.
أحد هؤلاء السياسيين الأوروبيين المتطرفين هو راسموس بالودان، المحامي الدنماركي السويدي الذي يقود حزباً سياسياً يمينياً متطرفاً باسم "سترام كورس"، وهو تعبير يعني بالعربية "الخط المتشدد". في محاولة لجمع توقيعات الناخبين المطلوبة كشرط لترشحه في الانتخابات السويدية المقبلة، في سبتمبر، قرر بالودان عمل فاعلية يحرق فيها هو وبعض المتطرفين الآخرين نسخاً من القرآن الكريم في ميدان عام. بالتوازي مع ذلك، عقدت مجموعة مماثلة من المتطرفين اليمينيين في النرويج مظاهرة مناهضة للمسلمين، قاموا فيها بتمزيق صفحات من القرآن وبصقوا عليه، ثم احتفلوا بإهانتهم كتاب المسلمين المقدس.
مع الأسف، هذه ليست المرة الأولى التي يستفز فيها بالودان المسلمين بهذه الطريقة. ربما لن نبالغ لو قلنا إن مسيرة بالودان السياسية وشهرته قائمة بشكل أساسي على إظهار الكراهية تجاه المسلمين والاعتداء على مقدساتهم بهذا الشكل الفجّ. بينما يكتسب بالودان الشهرة والنفوذ السياسي بأفعاله المشينة تلك، تسبب في الكثير من أعمال الشغب التي أدّت إلى شل الحياة في مدينة مالمو وإثارة الغضب بين أكثر من مليار مسلم في جميع أنحاء العالم. استنكرت السعودية ومصر وتركيا وكذلك تحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة، ما قام به بالودان، ومؤخراً تم توقيفه، ومنعه من دخول السويد، بتهمة ممارسة التمييز، لكن هذا لم يكن كافياً لردعه.
إن المتطرفين اليمينيين في أوربا، من أمثال بالودان، ليسوا أقل خطورة من الإرهابيين الإسلاميين في تنظيمات مثل داعش والقاعدة. في حقيقة الأمر هم يساعدون التنظيمات الإرهابية بتجنيد أتباع وتبرير عمليات إرهابية، مستخدمين الشعور بالخزي بين كثير من المسلمين الشباب وهم يشاهدون كتابهم المقدس يهان بهذه الطريقة.
هذه المظلومية والشعور بالكراهية ضد غير المسلمين هي الأساس الذي تبني عليه هذه الجماعات خطابها المتطرّف في العادة. وتبقى الحقيقة المرة في هذا المشهد المظلم هي أنه لا السياسيون الجشعون ولا المتطرفون الدينيون يدفعون ثمن ما يسمى بـ "الحروب المقدسة" التي يطلقونها، بل إنّ المدنيين الأبرياء، فقط وحدهم، هم من يدفعون الثمن.
ليفانت - داليا زيادة
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!