الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الأم، صانعة السلام مرة أخرى
جمال الشوفي

في البدء كان النور، والنور الشفيف دفء وبدء حياة، ذاك الذي لا تُرى فوتوناته "صفريّة الكتلة"، ولكن تُلمس آثاره وقدرته الفعالة حرارة ودفئاً، فكيف وإن كان حناناً! وحنان الأم بذاته طاقة لا تقارنها طاقة في الوجود الإنساني! في البدء كان الضوء يعانق ويتغلل في يخضور الأشجار فيتشكّل الوجود الأول للحياة، كما يطوف حنان ومشاعر الأمومة في حنايا طفلها وأسرتها، فيكون النماء والكبر، ويساهم الجميع، من بعد هذا الخفي واللامرئي صانع طغمة الحياة الأولى، في اكتمال شجرة الحياة والوجود انتاجاً وفكراً وثقافة وسياسة وحرباً أيضاً، لنبحث من بعد هذا عن السلام! إنّه أمر مثير للدهشة والذهول: كيف تُصنع الحياة من هذه اللوحة الجميلة والأنيقة لهذا الوجود المتّحد في قلب ورحم أم نحب، ثم نعود للبحث بعد هذا عن السلام. الأم، صانعة السلام


ليس لأنها أمي، أو أمك أو أمّ أي منا نحن البشر فقط، أو لأنها الأم الطبيعية التي تَحمُل وترعى وتسهر الليالي وتفني حياتها في الرعاية والاهتمام والتنشئة وحسب، بل لأنها كذلك مصدر الأمان والاستقرار وأصل الحقوق والعدالة والتضحية الأنطولوجية الأولى والمستمرة لليوم، وصانعة السلام المجتمعي والثقافي أيضاً. تلك الدعوة التي أطلقتها الشاعرة والناشطة الأمريكية "جوليا وورد هاو" للاحتفال بعيد الأمّ من أجل السلام، أثناء الاحتفال بأعياد الطفولة في العام 1872، وذلك في دعوة للأنوثة العالمية للمساهمة في نزع السلاح وصناعة السلام بعد طول الحرب الأهلية الأمريكية.


من المفيد التذكير إنّ هذه الدعوات وغيرها المتعلقة بمضمون السلام وفاعليته، أتت كتداعي للدعوة التي أطلقها "أبراهام لينكولن" عقب انتخابه رئيساً للولايات المتحدة للدورة الثانية عام 1863 بقوله: "بفضل نبذ الحقد تجاه أي أحد، وبالإحسان للمجتمع، وبالحزم في الحق، كما أرادنا الله، هلمّوا جميعاً ننجز العمل الذي نقوم به لتضميد جراح الامة، والعناية بمن تحمل عبء الحرب، وأرملته وابنه اليتيم، لنعمل كل ما يحقق السلام العادل والدائم، ورعايته فيما بيننا وبين الأمم قاطبة"، وذلك حسبما وثقها "الحسيني معدى" في كتابه "موسوعة أشهر الثوار في العالم".


لم تأخذ دعوة "وورد هاو" صدىً واسعاً وقتها، حتى العام 1912 حين أنشأت الأمريكية "أنا جارفيس" الجمعية الدولية ليوم الأم، والذي اعتمِد لاحقاً من قبل الكونغرس الأمريكي يوماً رسمياً لعيد الأم، وذلك في الأحد الثاني من أيار/مايو من كل عام حسب تقارير تأسيس الولايات المتحدة بعد أن حطّت الحرب الأهلية أوزارها فيها أواخر القرن التاسع عشر؛ لتتخذ من بعدها دول العالم من تواريخ مختلفة لعيد الأم والأمومة حسب ثقافاتها وتواريخها المؤثرة، ومنها يوم 21 آذار/مارس من كل عام الذي بات عيداً للأم عربياً، والذي اقترحه الراحل علي أمين مؤسس جريدة أخبار اليوم المصرية، موافقاً لتاريخ الانتقال من الشتاء إلى الاعتدال الربيعي حيث الدفء والأزهار كما هي الأم بالأصل.


الأمّ والسلام، أين نحن من هذا؟ أين نحن من أمّ المقتول حرباً، ويسمونه شهيداً! من أمّ المختفي والمغيّب قسراً، المهجّر من أرضه وبيته ووطنه، من أمهات الأطفال المليون من السوريون اليتامى حسب تقارير اليونسكو، من أم المعتقل! وهنا دهشة الغرابة وفظاعة المشهد! فالأم وقد حزنت على ابنها القتيل أو المهجّر أو من بات يتيماً قد تيقنت من الحادثة بحسها، واليقين فعل إقرار بالواقع يعتبر الخطوة الأولى لتجاوزه مرة أخرى بعد عسرٍ وحزنٍ عميق، أما أم المعتقل التي تعدّ الأيام والليالي، تحصي الساعات والدقائق ولسان قلبها يكرر: هل هو بردان؟ جوعان؟ مريض؟ حي أم ميت؟ أسئلة مترددة لا تقبل الحسم والقطع بالواقع، أسئلة معلقة على الإجابة، ليبقى قلبها وروحها معلقة على بوابة الحياة مرة أخرى، أتراه يعود. الأم، صانعة السلام


أمّ محمد والدة الشاعر السوري وصديق الطفولة ناصر بندق، والمعتقل منذ شباط 2014، لم تكفِ أمه تكرار ذات الجملة: فقط أريد لمسه، شمّه، تحسس شعره وأنفاسه قبل أن يوافيني الله، فكان أن وفّاها الله عقب مرض طويل قبل أن تحقق رغبتها، فلا زال معتقلاً لليوم! ووالدة حسام ذيب الذي لازالت تنتظره لليوم، وحسام المهجّر قسراً في العام 2015 من الغوطة الشرقية من بطش فصائل النظام الذي ثار ضدّه وبعد ذلك من فصائلها الإسلامية التي هيمنت على الغوطة لسنوات في مماثلة لذات فعل النظام بطشاً وعنفاً! حسام الذي توفي بحادث سيارة عند عبوره الحدود في إحدى الدول الأوربية، أمه لازالت ترفض فكرة قضائه، وتنتظره كل يوم عند المساء، أول الليل، تراه يدخل عليها وفي يده ضوء! ذات الضوء مصدر أمانها النفسي بالحياة الذي بثّته فيه حين أنجبته! ومثلهن آلاف الآلاف من حرقة قلب السوريات ووجعهن المتكرر للعام العاشر. الأم، صانعة السلام


عيد الأم اليوم، ليس عيداً كرنفاليّاً نتداعى له للتذكار والهدايا، ومع أنّه حق يجب متابعته، فالأم اليوم عليها حماية من بقي من شباب هذا البلد المنكوب، عندما تتبنّى ذات الفكرة عن السلام ونبذ الحرب الذي يذهب وقودها أبناء الجميع من كل الجهات والأطراف، إشباعاً لتنفيذ رغبة المتصارعين على السلطة في سورية وأولهم سلطة النظام! فحيث لا يمكن استمرار هذا الهدر الوطني بمقوماته المادية العامة التي توثّق أبشع جرائم التاريخ وقضاء شبابه بالجملة، بل أيضاً تشكيل بؤر القهر والأرق والخوف المتصاعد لصانعات الحياة ودفئها الأول، الأمهات.


يمرّ شهر آذار هذا بذكرى تاريخية لعيد الثورة في حلّتها السلمية الأولى، وتجاوره ذكرى عيد المرأة والأم، ما يلقي بثقلٍ وعبء المرحلة مرة أخرى على المرأة، آلهة الخصب الأولى، في استعادة موازين الحب والحنان والسلام التي فقدناها لأعوام، فلا يمكن للفوز بسلطة أو حكم بلد أن يعوّض عن تلك المشاعر التي بدأت تدفن معها كل مشاعر الانتماء وحقّ الحياة الأول أمام القتل والتهجير المستمرَّين لليوم! هي دعوة أخرى للمرأة السورية، خاصة تلك الفاعلات بالمجتمع المدني وثقافة الجندرة والحوكمة وغيرها، للبحث مجدداً ومرة أخرى في المساهمة بفاعلية، وعبر مواقع نفوذها الدولي في جمعيات حقوق الإنسان العالمية، ومنظمات الأمم المتحدة الدولية وكل المنابر الممكنة، والدفع مرة أخرى بصنع السلام الذي نريده لنا ولكل أمم الأرض، سواء أرادت سلطة النظام وقوى المعارضة هذا أم رفضته في بازارها المستديم على السلطة لليوم، لكنّه أضعف الإيمان.


ليفانت - جمال الشوفي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!