-
الفيدرالية: هل تكون خلاصًا أم انقسامًا؟ قراءة في تجربتي العراق وسوريا

مقدمة
حين تنهار الدولة المركزية، وتتعالى أصوات الهويات المغيّبة، يُطرح السؤال الكبير: هل تكون الفيدرالية طوق نجاة أم وصفة انفجار؟ في العراق، وُلد إقليم كوردستان من رماد الحروب والحصار، وفي سوريا، تشكّلت إدارة ذاتية وسط غبار المعارك. كلا المشروعين يرفع راية الفيدرالية، لكن المسارات متباينة، والمآلات غير محسومة.
هذه المقالة تغوص في عمق تجربتين متداخلتين، تفكك التحديات، وتفحص الإمكانات، وتحاول الإجابة: هل يمكن للكورد في سوريا أن يستلهموا نموذج كوردستان العراق؟ وهل ما زالت الفيدرالية في الشرق الأوسط مشروعًا قابلًا للحياة، أم حلمًا مؤجلاً؟
أولاً: الفيدرالية كنظرية سياسية
الفيدرالية تُعرّف بأنها نظام سياسي دستوري يقوم على توزيع السلطة بين حكومة مركزية ووحدات إقليمية، بحيث تُمارَس السيادة بشكل مزدوج ومتكامل. وغالباً ما تنشأ الفيدراليات نتيجة توافق سياسي بين كيانات سابقة الاستقلال، أو كردّ فعل على الاستبداد المركزي.
ومن أبرز مزاياها:
تعزيز المشاركة السياسية.
حماية الأقليات.
تشجيع التنمية المحلية.
تقليل التوترات الانفصالية.
لكن هذه المزايا لا تتحقق إلا في وجود ثقافة سياسية ديمقراطية، ومؤسسات قوية، وتوزيع عادل للثروات.
ثانياً: فيدراليات ناجحة وفاشلة حول العالم
يمكن تصنيف الفيدراليات في العالم إلى نوعين رئيسيين:
● فيدراليات ناجحة:
الولايات المتحدة: حيث النظام الفيدرالي متماسك منذ أكثر من قرنين.
ألمانيا: طوّرت "فيدرالية تعاونية" بعد الحرب العالمية الثانية.
سويسرا: نموذج يحتذى به في التعدد اللغوي والديني ضمن نظام فيدرالي صارم.
● فيدراليات متعثرة أو فاشلة:
يوغوسلافيا: قادت الفيدرالية إلى الانفصال بسبب غياب هوية وطنية جامعة.
إثيوبيا: شهدت انهيارًا جزئيًا في العلاقة بين المركز والأقاليم واندلاع صراعات داخلية.
ثالثاً: التجربة العراقية – فيدرالية ناقصة النضج؟
أقرّ الدستور العراقي لعام 2005 النظام الفيدرالي كإطار قانوني لإعادة بناء الدولة بعد سقوط النظام المركزي. ورغم أن النص الدستوري واضح في ضمان حقوق الأقاليم، إلا أن التطبيق ظل مقتصرًا عمليًا على إقليم كوردستان.
إقليم كوردستان كنموذج
يتمتع الإقليم بحكومة وبرلمان مستقلين، وقوات أمنية (البيشمركة)، وسلطة واسعة على موارده الطبيعية. لكنه واجه أزمات متكررة مع بغداد، أبرزها:
الصراع حول عائدات النفط.
ملف المناطق المتنازع عليها.
تجميد الموازنة المالية للإقليم.
في المقابل، يعاني الإقليم داخليًا من:
خلافات حزبية على السلطة .
تدخلات خارجية إقليمية .
إنها تجربة "نصف فيدرالية"، ناجحة على المستوى الإداري، لكنها متعثرة على صعيد الديمقراطية الداخلية وبناء المؤسسات.
رابعاً: الفيدرالية الكردية في سوريا – مشروع في طور التكوين؟
أُعلنت "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" عام 2014، ثم تطورت إلى "الفيدرالية الديمقراطية" عام 2016، بقيادة قوات سوريا الديمقراطية ومجلس سوريا الديمقراطي.
رغم محدودية الاعتراف الدولي، إلا أن الإدارة الذاتية أنجزت بعض الخطوات المهمة:
تأسيس مؤسسات مدنية محلية.
توفير خدمات مستقرة نسبيًا.
إشراك المكونات المتنوعة (عرب، كرد، سريان) في الحكم المحلي.
لكن التحديات كبيرة، وتشمل:
رفض النظام السوري والمعارضة للفيدرالية واعتبارها "مشروعًا انفصاليًا".
الحصار الجغرافي والسياسي والاقتصادي من تركيا وبعض القوى الإقليمية.
الاتهام بالتبعية لحزب العمال الكردستاني (PKK)، ما يقلل من شرعيتها الدولية.
وعليه، تبقى هذه الفيدرالية في منطقة رمادية: لا هي دولة معترف بها، ولا جزء فاعل من الدولة السورية القائمة.
خامساً: هل يمكن للسوريين، خصوصاً الكرد، الاستفادة من التجربة العراقية؟
* ما يمكن الاستفادة منه:
1. الاعتراف الدستوري بالتعددية
أقرّ الدستور العراقي بالتنوع القومي والديني، ويمكن لسوريا أن تتبنى نموذجًا مشابهًا في حال تم إنتاج دستور جديد توافقي.
2. إنشاء مؤسسات محلية فاعلة
مثل برلمان كوردستان وحكومته، يمكن للإدارة الذاتية أن تطور مؤسساتها ضمن إطار وطني سوري.
3. اللغة والهوية الثقافية
إعطاء مساحة للغات والثقافات المحلية ضمن النظام التربوي والإعلامي يعزز التعايش بدل الصراع.
** ما يجب الحذر منه:
1. الصراع المستمر مع المركز
التجربة العراقية أظهرت أن المواجهة مع المركز تضر أكثر مما تنفع. الحوار هو البديل.
2. الفساد واحتكار السلطة
الاحتكار الحزبي أدى إلى تراجع ثقة الناس بالحكم المحلي. الشفافية والتداول ضروريان.
3. الخطاب القومي الضيق
لا بد أن تُبنى الفيدرالية على أسس مدنية وشراكة وطنية شاملة، لا على انغلاق قومي.
إن النجاح في بناء فيدرالية حقيقية في سوريا يتطلب أكثر من نموذج، بل يتطلب إرادة سياسية ومجتمعية لبناء عقد اجتماعي جديد يقوم على التعدد والمواطنة.
سادساً: ملاحظات ختامية – الفيدرالية في المشرق العربي
ما يمكن استنتاجه من الحالتين العراقية والسورية، هو أن الفيدرالية في المنطقة ليست مسألة دستورية فقط، بل سؤال وجودي يرتبط بهوية الدولة نفسها. النجاح في تطبيقها مشروط بعدة عوامل، أهمها:
وجود عقد اجتماعي ودستور توافقي.
إشراك جميع المكونات في إدارة الدولة.
توزيع عادل للموارد والثروات.
ضمان الحقوق المدنية والسياسية.
تفكيك المركزية السلطوية.
فإذا ما فُهمت الفيدرالية كآلية للانفصال والتقسيم، فإنها تهديد مباشر. أما إذا تم التعامل معها كوسيلة لتحقيق العدالة التشاركية، فإنها قد تمثل فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية حقيقية.
الهوامش والمراجع من مصادر متنوعة .
بقلم : ماهين شيخاني
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!