الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
صديقتي المتعبة تشكو للغريب كأني لست هنا
سالي علي

بين مشهد رحيل الشمس عن بقعة الأرض التي أحمي جسدي منها، بين مسامات النقاش التي كانت تعلوها أصوات اضطراب صديقتي عن وضعها النفسي غير المطمئن لها ولعائلتها، بين اتصال هاتفي لتناولنا ورقة مكتوب عليها رقم هاتف وعنوان منزل ذاك الشخص، بين نهوضنا المفاجئ لجميع الجالسين وبين رحيلنا نبحث عن عونٍ وهون يخفّفُ عن صديقتي وعن فضولي تعب الطريق، تعب الوصول وتعب الانتظار في صفوف الدور.

وصلنا منزل الشخص المقصود.. جلسنا في الدور نراقب من كانوا هناك، نستمع لأحاديثهم ونرتشف قهوة انتظار فرج رحمة الشخص على صديقتي التي أرادت بكل قناعتها أن تأتي إليه تستنجد به لترتاح من قلقها.

بعد مرور عدة نساء ورجال وحتى أطفال جاء دورها، تقدمت نحوه بخشوع تام كأنه السيد الأول بحياتها، تملكتها هالة من الخوف مع انخفاض لمستوى الصوت لديها والذي بدا لي مختلفاً عن قبيل ساعتين ونحن هناك نراقب غروبنا عن المكان ورحيل الشمس عنا، جلست بقربه بمسافة تجعله يضع يديه، إحداها على رأسها، والأخرى على يدها.

بدأت الجلسة بينهما بمحاولتها لتقبيل يده لكنه رفض بلطف وطلب منها فقط الجلوس بهدوء والتكلم معه، وبالفعل بدأت صديقتي بالشكوى وأخبرته عن تفاصيل ما يحدث معها من قلق في الدخول لمكان نومها وحدها، عن هلوساتها وتعبها عند الاستحمام، فلا تقوى على إغلاق أي باب خلفها، تريد لجميع الأشياء من خلفها أن تكون مفتوحة، فهي تخاف العتمة تخاف الهدوء وتشعر بأن شخصاً ما قد أصابها بالعين أو أنه كتب لها مكتوباً يدعو فيه أن لا تنام مرتاحة البال وبأن لا تتوفق في مجال عملها، وأخبرته أيضاً بأنها تشعر بمرافقة خيال لها في كل أماكن تواجدها، تشعر به خلفها، لا صوت يصدر حتى تراه لكنها فقط تشعر به يراقبها.

استقبل ذاك الشخص كلامها بكل جدية، وأخذ يتمتم بشفاهه بعض الحروف اللا صوتية وغير المفهومة، وأنا من بعيد أراقب خشوع صديقتي لكل أفعاله، لكل نصائحه لكل تحليلاته حول ماذا يحصل معها، وما هي الأسباب التي جعلتها تصل لهذه اللحظة التي استعانت به لتخطيها، ثم طلب منها عدة أمور لتقوم بها وهي الاستمرار بالشكر وإرسال ما تقدر عليه من المال لبعض المحتاجين، كما ينبغي عليها الاستحمام بماء فاتر حتى لا تتشكل الغيوم من البخار والذي بحد علمه يجلب المخلوقات المزعجة التي تجعل من خوفها وقلقها وهلوساتها بتزايد مستمر.

صديقتي لم تكتفِ لأنها لم تقتنع بنفيه لوجود الحسد والغيرة والطمع من حولها، فهي تصرّ على أن زميلتها في العمل قد كتبت لها مكتوباً تدعي فيه بالجحود وإزالة النعمة عن حياتها لذلك هي تخسر ما حولها من عمل وأصدقاء ولذلك هي قلقة تخاف، وعاودت إليه بالطلب أن يقوم هو أيضاً بكتابة شيء لها كي يرتاح قلبها وتمنع وصول الحسد إلى حياتها كي يحميها.

وهنا رأيته يُخرج من مكتبته كتاب القرآن الكريم المغلف ببيت جلدي للحماية وعليه قفل مفتاح صغير، دهشت وأنا أراه مغمض العينين يتمتم بشفتيه واضعاً إحدى يديه على قفل الكتاب يمسدهُ على مهلٍ ويده الأخرى على رأس صديقتي ويتثاءب طوال الوقت.

أنا في مكاني مندهشة، وهو في مكانه يستمر بالتثاؤب، وصديقتي هناك خاشعة منحنية الرأس تضم يديها على بعضهما البعض كأنها تحمي فضولها من الانفجار صاحية بوجهه "أخبرني ماذا وجدت يا سيدي؟".

لم تلبث الدقائق حتى انتهى من عمله، ليخبرها بأن طاقتها السلبية قوية جداً لذلك هو ظل يتثاءب بوجهها، ليس نعساً بل طرداً لتلك الطاقة اللعينة على حد وصفه. هنا لمحت هدوء وسكون ملامح صديقتي، وبدأ الارتياح النفسي بالصعود إلى عقلها، فتشكلت على خديها ضحكة وابتسامة عريضة شاركتني إياها، كأنها ترسل لي خبر انتصارها على شرور زميلتها في العمل تلك.

نهضت من مكانها تستودعه وتشكره على ما فعل لها، كررت الكثير من عبارات الامتنان وأرسلت له سلام أمها وبعض جيرانها ممن يأتون إليه بشكلٍ مستمر يتباركون بحكمته وجلالة قدره.

نهض معها ليودعنا على الباب وقبيل الرحيل سلّمت صديقتي مرة أخرى عليه، قبلت يده دون رفضه، ووضعت بين يديه مبلغاً من المال كعربون عادات وتقاليد قد حافظ عليها الكثير مثلها ممن يجدون راحتهم هنا بمثل هذه الأماكن وبمثل هذه الشخصيات وتلك المعتقدات.

لم أشهد على مثل هذه الحالات التي سمعت عنها الكثير حتى شاركتُ صديقتي إياها، ولم أنطق بحرف واحد كتعليقٍ مني على ما حصل هناك، فهي فهمت صمتي فأردفت تقول لي "الآن أستطيع النوم".

أكملنا طريقنا وعاودت الحديث عما تمتلكه من قلق وقلة نومها وعن زميلتها الحسودة وكيف ستتخلص من عقدة عدم إغلاق الباب خلفها خوفاً من شبحٍ يطاردها، تركتها تتكلم وتتكلم وتفضفض كما فعلت قبل رحيل الشمس هناك وبعد مجيء الليل هنا، نظرت لها وأخبرتها أن طريق منزلي من هناك، سأغادر وهي ستمضي مع شبحها لتتذمر معه، أعطيتها تلك الورقة التي تحتوي رقم وعنوان ذاك الشخص، لتعاود الرحيل إليه، يبدو أنها تحتاج للمزيد من أشباهه لترتاح، ستنتقل من بيت لبيت ومن يد إلى يد وتضع المال هنا وهناك ولن ترتاح لأنها تفعل ما اعتادت هي ومن يعرفها عليه وليس ما يجب أن يُفعل.

لطالما أخبرتها بأن صحتها متراجعة تحتاج للمزيد من الفيتامينات فهي من الواضح أنها تعاني النقص الذي يسبب القلق وقلة النوم والهلوسات، لكنها لم تستمع لي لأني لا أملك عنواناً ولا كتاباً بيدي ولا أعاني من النعاس عندما تفضفض لي عن مكنوناتها الداخلية، فهي صديقتي دائماً ولا أحتاج المقابل منها لتبقى.

ليفانت - سـالي علي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!