-
الصين من الديكتاتورية إلى حكم الفرد
غادرت الصين حكم الفرد في 1976، بوفاة ماوتسي تونغ؛ مؤسسها الجديد. جاءت سياسة الإصلاح والانفتاح بقيادة دنغ شياو بينغ 1978، لتعطي للداخل الصيني، ولقيادة الحزب وزناً فعلياً، وانفتحت الصين على الخارج، وجاءت الاستثمارات وتوسعت التجارة العالمية، وفي 1982، حَدَّد الدستور الرئاسة بفترتين فقط. لقد حدث تطور داخلي كبير إثر الانفتاح، الذي جاء أيضاً على خلفية التصنيع العام الرئيس بين 1949 ووفاة ماو.
مع مجيء شي جينبينغ للسلطة في 2012، شهدت الصين تطوّراً متعاظماً، على أرضية التصنيع القديم، ما بعد الثورة 1949، واستطاع عبر سياساته الانفتاحية، إكمالاً لأسلافه، تطوير الصناعة بمختلف قطاعات الاقتصاد، وعمل على تقليص الفوارق الطبقية، ولا سيما بين الأرياف والمدن وبين الأفراد في عموم الصين، وتمكن عبر سياساته صارمة انتشال 700 مليون صيني من الفقر، خلال فترتي رئاسته السابقتين.
المشكلة مع هذا الرئيس بدأت في 2018، حينما خرق الدستور، وعَدلهُ البرلمان الصيني ليتضمن فترة رئاسية ثالثة، وهذا ما أرساه المؤتمر العشرون، وأصبح بذلك شي، رئيساً للدولة وللحزب وللجيش وللشرطة ولسواه. الأن، يحوز الرجل على أكبر عدد من المناصب بين رؤساء العالم، وهنّأه أمثاله فوراً، بوتين ورئيس كوريا الشمالية، وبذلك انتقلت الصين من الديكتاتورية إلى الحكم الفردي، وبذلك تهمشت التيارات الفكرية والسياسية في الحزب، وبالتالي سيشيد نظاماً أمنياً بامتياز، وهذا خطير على مستقبل الصين في عالمٍ يتسم بالانتقال من الهيمنة الأمريكية الأحادية إلى الهيمنة المتعددة، ويتطلب توسيع الصلاحيات لا وضعها في يد شخص واحد.
كان ملفتاً ألّا يتم طرد الرئيس الصيني السابق في أول أيام المؤتمر، في الشهر السابق، واقتُلِعَ من كرسيه في اليوم الأخير فقط. تمَّ الأمر أمام كافة أعضاء اللجنة المركزية، وكبار قيادات الجيش والدولة، وأمام الإعلام، الداخلي والخارجي، أي أراد "شي" إيصال رسالة واضحة للعالم وللصينين، إنني أنا الرئيس الأقوى في العالم، وعلى الجميع، الإمعان جيداً في العلاقة مع الصين، وللداخل، كانت الرسالة بقطع رأس كل من يفكر بالاعتراض أو النقد، فها هو يطرد أقوى شخصية في تاريخ الصين قبل 2012. بعض التقارير الصحفية، أكدت أن الرئيس هوجين تاو، لم يكن راضياً عن تغيير الدستور على مقاس "شي"، ولا التشدّد مع الخارج، ولا سيما مع أمريكا وبخصوص تايوان، وكذلك بخصوص الاصطفاف مع روسيا بشأن أوكرانيا.
في مقررات المؤتمر، جملة تؤكد الاستمرار في تطبيق الديموقراطية الشعبية، أي في رفض أيّة أفكار تخص الحريات أو النظام الديموقراطي أو تعدد الأحزاب أو الانتخابات الحرة. وهي فكرة تداولتها الأنظمة المستبدة الاشتراكية والقومية طويلاً كبديل عنٍ الديموقراطية الليبرالية، ولم تكن في حقيقة أمرها سوى حكم الحزب الواحد أو الفرد الواحد، وتتضمن رفضاً كاملاً لدور الشعب في السلطة، وباسم الشعب، وهنا المأساة، حيث المتضرّر الحقيقي منها هو ذلك الشعب بينما السلطة وامتيازاتها تصبح محتكرة لكبار الضباط وقيادة الحزب وعائلاتهم، ولفئات طفيلية، تعتاش على جسد الدولة المحكومة من الفرد، أو قيادة الحزب. الصين ليست على هذا النحو، وإن كانت فعلاً الفئات العليا في الدولة والدائرين بفلكها تستفيد من امتيازات السلطة.
الحكم المطلق هذا لا يعني تجاهل إنجازات الدولة الصينية تحت حكم شي، فهي دولة اختزلت الكثير من الزمن عبر تطورها بين 1949، و2022؛ ففيها أكبر نهضة صناعية في العالم، وأكثر علاقات تجارية مع دوله، وثاني أكبر اقتصاد عالمي، وترسانتها العسكرية، البرية والبحرية والجوية أصبحت الخطر الأول على الهيمنة الأمريكية، كما تقول الإدارة الأمريكية.
صَنفت أمريكا الصين في استراتيجيتها للأمن القومي بداية تشرين الأول، 2022، باعتبارها التحدي الأكبر، وكان أوباما قد غيّر استراتيجية أمريكا في 2012، أي عام مجي شي للحكم، باتجاه آسيا، وتحديداً الصين، وأن الخطر على هيمنتها العالمية يكمن هناك، وزاد في ذلك كل من ترامب وبايدن، ومؤخراً في 7 تشرين الأول 2022 عمل الأخير على قطع أية علاقات تجارية على صادرات أشباه الموصلات، الأساسية في الصناعات الدقيقة إلى الصين.
رسّخَ شي جينبينغ بعد المؤتمر، الذي انتهى في 22/10/2011 سياساته الخارجية، فالصين دولة واحدة بنظامين، وكما عادت هونغ كونغ وماكادو، وأصبح لهما حكماً ذاتياً تحت السيطرة الصينية، سيكون الأمر كذلك مع تايوان، وبالتالي ستكون قضية هذه الجزيرة من أبرز التحديات أمامه، سيما أن أمريكا ترفض توجهه هذا، وهذا سيفضي إلى تأزّم العلاقات الدولية مع أمريكا وأوروبا أيضاً، والأخيرة تزيد من انتقاداتها للصين بسبب تحالفها من روسيا، وتضرّرها الكبير هي من سياسات بوتين. الصين ورغم وقوفها مع روسيا فهي ترفض إمدادها بالسلاح، وترفض خرق العقوبات الدولية، وبالتالي تحاول أن تأخذ موقع "المراقب للأحداث" والأقرب للاصطفاف مع روسيا، وتطالب بصورة مستمرة بالحل السياسي لمشكلة أوكرانيا؛ في مؤتمر مجموعة قمة العشرين، كان اللقاء بين شي وبادين مفيداً لجهة تخفيف التصعيد بين الدولتين، وانعكس على الموقف من أوكرانيا، حيث أكد شي على ضرورة حل قضية أوكرانية بالتفاوض إيقاف الحرب.
إن السياسة الحمائية التي انتهجها ترامب، وانسحب من معاهدات دولية كثيرة، كانت تعد أساسية في نظام العولمة، استمرت مع بادين، وراحت أوروبا تأخذ الاتجاه ذاته، ولكن أيضاً لم تنته العلاقات بين الدول المنخرطة بالعولمة، ويبدو أن ألمانيا وفرنسا وأمريكا بشكل خاص، تراجعت عن التصعيد ضد الصين، وهذا يحقق مصلحة كافة الأطراف. الصين، وبسبب تقدمها الصناعي الكبير بنت علاقات استراتيجية مع بقية دول العالم، ولم تَقصِر علاقاتها مع الغرب، ولا سيما إفريقيا، والشرق الأوسط، ودول اسيا.
هل سيفشل النظام الفردي في التحديات الداخلية والخارجية، في حل مشكلات الشعب، وفي العلاقة مع الغرب. لا شك بأن الفردية في الحكم، تؤدي إلى أسوأ العواقب، فأمامنا سقوط الاتحاد السوفيتي، هتلر، وصدام حسين، وعشرات الأمثلة، وكلّها تقول بخطر الحكم الفردي. المشكلة الآن أن العالم ينقسم فعلياً بين الأنظمة المستبدة، وعلى رأسها الصين وروسيا وإيران، والأنظمة الليبرالية وعلى رأسها أمريكا وأوروبا واليابان. فهل نتائج قمة العشرين ستوقف التطور نحو حرب باردة جديدة، كما ذكرنا، الأمر ما زال مفتوحاً أيضاً، فتقدم الجمهوريون في أمريكا، قد يباعد من جديد بين الصين وأمريكا.
تعاملت الدولة الصينية مع كوفيد 19 بأسلوب استبدادي كبير، وهدفت إلى صفر كوفيد، ولكن الفيروس يعود ويتمحور وينتشر في المدن الصينية، وتعود الدولة لإغلاق المدن، وإيقاف العمل. كان لنتائج ذلك انخفاض في النمو، وتذمر اجتماعي كبير. أيضاً كان لتهديده للشركات الكبرى، وإجبارها على دفع ضرائب عالية، وبمليارت الدولارات من أجل إنهاء الفقر دوراً سلبياً على أعمالها، في الوقت الذي طمحت الشركات لمزيد من الحريات في السوق وانفتاح على الخارج، فإذا بالدولة تتدخل بشكل حاسم، وتضع لها قيوداً كبيرة، وإذا أخذنا السياسة الحمائية الغربية بالاعتبار، فإن التضييق على الشركات سيعني إبطاءً في النمو وخفضاً للضرائب عليها، وربما إفلاسها، كما كانت متوقعاً لأكبر شركة عقارات، وهذا سيكون سلبياً على سياسة إلغاء الفجوة مع الفقراء.
القصد أن انتهاج الحكم الفردي، دائماً له عواقب سلبية، فهل سيتمكن شي جينبينغ من تفاديها والسير بالصين وفقاً لمقررات المؤتمر الأخير، والاستمرار في التجربة الاشتراكية "القومية؟
إن دور الدولة الكبير في الاقتصاد وتطوير المجتمع يساعد في ذلك، ولكن دور القطاع الخاص الكبير بدوره، وامتيازات السلطة الواسعة تشجع على الخيار الرأسمالي أكثر من التفكير بالاشتراكية، وسياسة الإخاء المشترك، أي الأخذ من الأغنياء وتطوير الدولة والنهوض بحياة الفقراء. أيضاً هل ستتمكن الصين من إبعاد شبح الحرب العالمية عنها، وتستمر في تطوير ترسانتها العسكرية، والتي تنظر لها أمريكا بعين "التحدي الأكبر"؛ خيارات الصين صعبة للغاية، والمشكلة أن مقررات مؤتمر الحزب العشرين هو مجرد أداة من أجل تطبيق سياسات الرئيس شي، أي أنه وبعد امتلاكه كل تلك الصلاحيات يستطيع التغيير والتبديل فيها، ثم هناك تجربة غورباتشوف، والتي يرفضها شي، حيث كان لدوره الأثر الأكبر في انهيار الاتحاد السوفيتي.
بكل الأحوال، تضمنت المقررات إشادة فخمة بالرجل، وبفكره، وبدوره المحوري في الحزب، وبالتالي أقرّت له بالحكم الفردي، والأبدي للصين. فهل تنجو بلاد التنين، وهل سيتمكن الرئيس من السير بها وسط مشكلات المليار والنصف، سكان الصين، ومطالب المائة مليون صيني، وهم عدد أفراد الحزب الوحيد في الصين، ويتفادى الصدام مع أمريكا والغرب؟
ليفانت - عمّار ديّوب
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!