الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الصراع في ليبيا...تقاطع المصالح في شرق المتوسط
رامي شفيق

ثمة تراتبية لا يعتريها شك، بأن موجات الصراع الفائت خلال القرن الماضي، قد دارت أحداثها من خلال تناحر الأيديولوجيا التي لعبت دوراً مؤثراً في تشكيل التحالفات على أساس عقائدي، جعلت العالم يقف على تخوم معسكرين؛ أحدهما يتبنى القيم الرأسمالية، بكل ما تمثلها من أفكار وانحيازات، سياسية ومجتمعية، وحتى أخلاقية وفلسفية، ويقابله المعسكر الاشتراكي، بأفكار وطموحاته الثورية على مستوى الاجتماع البشري وتوجهاته الأممية.


وقفت على ناصية الأول، الولايات المتحدة الامريكية، بينما ورفع لواء المعسكر المضاد، روسيا أو الاتحاد السوفيتي سابقاً. وعلى إثر ذلك الانشطار الذي شكل ملامح المرحلة الجديدة ما بعد الكولونيالية والتي تجلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، صكت الظروف والعوامل مصطلح "الحرب الباردة" بين القوتين الرئيسيتين، وعلى أطرافهما دارت معارك فرعية، كان مضمونها الحقيقي صراع الكبار حول القوة والنفوذ بينما يجري على السطح صراع الأيديولوجيا.


بيد أن المتغيرات التي عصفت بالعالم، خلال العقدين الأخيرين، سمحت بتهيئة المناخ العالمي لخريطة صراعات جديدة، تتشكل جل ملامحها عبر الاقتصاد، وفرصه الحقيقية، وما يعبر عنه من ثروات هائلة وتنوعة، تجذب معها قوى ومصالح عديدة معقدة ومتناقضة، أحياناً، بل ومتداخلة على نحو متشابك، في أحيان أخرى، كأنها تجري وسط ألغام. إذ لا يمكن النظر إلى المستقبل دون السيطرة على قوى الانتاج والثروة، ومحاولة بسط راحة اليد على بعض منها أو المشاركة في الاستفادة من عوائدهما، بقدر ما تسمح القوة الحقيقية على الأرض.


وبذلك أضحى ذلك الأمر بمثابة المعادل الحقيقي الذي يمكن تعقبه، لجهة كشف مجريات الصراع على خريطة العالم، وداخل الشرق الأوسط، تحديداً. بيد أن الإختلالات التي ضربت عواصم عربية، على خلفية انتفاضات العام 2011، قد كشفت عن مآرب القوى التقليدية، والقوى الطامحة في ثروات تلك البلدان، وما كان غائماً أضحى مكشوفاً وواقعاً، بل تحول إلى أداة تفسر طبيعة الصراع، وتفصح عن حدوده، وتفضح أغراضه، وبالقدر ذاته، تعكس طبيعة وجوهر النظام الدولي الذي استقر عقب الحرب العالمية الثانية، والذي فيما يبدو لم يعد ملائماً لطبيعة الصراع ونمطه السائد ولا قادراً على مواكبة تطوراته ومآلاته.


وهو الأمر الذي نجم عنه، طموح متصاعد لعدد من العواصم، تسعى نحو اقتسام الثروات والمنافع لحصد مكاسب استراتيجية، ستتيح للبعض منها بلورة نفوذ قوي إقليمياً ودولياً.


وعبر الفوضى التي ضربت العاصمة الليبية، جراء أحداث فبراير العام 2011، رفعت ليبيا منسوب التهديدات لكافة الدول المتاخمة لها جغرافياً، وذلك على خلفية انتشار الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وكذا، الميلشيات المسلحة التي تم توظيفها في الصراع المحتدم، باعتبارها حالة أمنية وسياسية قائمة. وفي ظل السيولة والانفلات الأمنيين بليبيا، فتحولت إلى منصة لشن هجمات ضد القاهرة من خلال حدودها الغربية المشتركة. ونظراً لطول الشواطئ الليبية الممتدة عبر البحر المتوسط، ـضحت ممراً دافئاً لاندفاع موجات غير مسبوقة من الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا.


ورغم التعقد العنيف الذي يحيط بالمشهد الليبي، وتقاطع المصالح والعوائد الاقتصادية والسياسية، التي تتشابك بين الأطراف الفاعلين والمنخرطين داخل العمق الليبي، بالإضافة إلى حالات الكر والفر بين قوات الجيش الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، وميلشيات الوفاق، المدعومة من تركيا، بهدف السيطرة على الغرب الليبي، وإحكام القبضة على كافة نقاطها الجغرافية والاستراتيجية، فإن تقدم قوات الوفاق على أكثر من نقطة في الغرب الليبي بدعم عسكري تركي، لا يجعلها نقطة النهاية في المشهد الليبي، ولا يمكن اعتباره لحظة يتأسس عليها أفق سياسي نهائي في ذلك الصراع، وذل نتيجة التداخلات الحادة والعنيفة بين المصالح الـأوربية، والأدوار المركبة التي تمارسها أنقرة على الأراضي الليبية بين المصالح الامريكية والروسية من ناحية، ودورها الوظيفي تجاه واشنطن في الوقوف أمام موسكو، من ناحية أخرى.


بيد أن الأيام الـأخيرة، كشفت عن تحركات من الجانب الامريكي تعكس الرغبة في الانخراط داخل المشهد الليبي دون الاشتباك الميداني، ولكن بهدف إعلان الوجود والحضور إذت لزم الامر .


ففي نهاية شهر أيار (مايو) أعلن الجيش الأمريكي أن واشنطن تبحث إرسال لواء للمساعدة الأمنية إلى تونس، بغرض التدريب في إطار برنامج للمساعدة العسكرية، وسط مخاوف بشأن النشاط الروسي في ليبيا.


كما ذكرت قيادة الجيش الأمريكي بأفريقيا في بيان رسمي أنه مع استمرار روسيا في تأجيج لهيب الصراع الليبي، فإن القلق يزداد بشأن الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا. وأكدت: "نحن ندرس مع تونس طرقاً جديدة لمواجهة القلق الأمني المشترك ويشمل ذلك استخدام لوائنا للمساعدة الأمنية".


تمثل العمليات العسكرية في الأدبيات السياسية والاستراتيجية وسيلة وليست غاية مطلقة، وذلك على اعتبار أن الأفق السياسي يعد النقطة الأبرز والغاية القصوى الأمثل من أي عملية عسكرية. وانطلاقامن ذلك، تحركت السياسة المصرية وسط غيوم وألغام المشهد الليبي، في إطار المصالح الروسية التي ترغب في أن تكون طرفاً أصيلاً في ثروات شرق المتوسط؛ بحيث  تهدف موسكو التحكم والسيطرة في التنقيب واستخراج ثروات الغاز، وكذا، مسارات نقله نحو اوروبا.


كما تعمل على حماية ذلك الطموح بتواجد عسكري مباشر، من خلال قواعد عسكرية، أو بشكل غير مباشر من خلال الدعم العسكري للقوى المتصارعة على الأرض، بحيث تقف حائلاً أمام التواجد الامريكي على الأراضي الليبية، خاصة، وأن التصريحات التي صدرت من قبل حكومة السراج في نهاية شهر شباط (فبراير) الماضي، أن ليبيا لا تمانع إقامة قاعدة عسكرية أمريكية حال رغبت واشنطن في ذلك.بل اعتبرت أن الأمر من شأنه تعزيز يعزز السلام في البلاد!


من الصعوبة بمكان النظر إلى تعقد المشهد الليبي من ناحية، وإعلان القاهرة مبادرة للحل السلمي والسياسي، من ناحية أخرى عبر فوهة مدفع والتعامل العسكري الخشن. إذ إن إعلان القاهرة إطاراً سياسيا يبلور تصورها العام للأزمة الليبية، كما يعكس من زاوية اخرى أن الصراع المحتدم على حدودها الغربية لم ولن تسمح أن يتكرر مرة أخرى، علاوة على رؤيتها الاستراتيجية في ضرورة استقرار منطقة النفوذ الاقتصادي بشرق المتوسط ، بما يسمح بإدارة الثروات الموجودة، وأن تضحى القاهرة طرفاً فاعلاً في ذلك لجهة انطلاق خططها الاقتصادية والاستفادة من العوائد المترتبة عليها.


ومن خلال الاتفاقيات حول ترسيم الحدود البحرية بين عدة دول من بينها إيطاليا والقاهرة، يمكن النظر الى الاتفاق بين السراج وأردوغان باعتباره ورقة وسط أمواج متلاطمة من المصالح المتعارضة.


وثمة من يذهب أن السيناريو الليبي قد يدفع نحو صراع عالمي، أو حرب تركية مصرية، بيد أن واقع الأمر في حقيقته يشي بأن اندلاع الأعمال العسكرية بين الأطراف المعنية قد يكون أقل السيناريوهات توقعاً، خلال المدى القصير والمتوسط؛  إذ إن الواقع وتحليل المشهد سيفاقم دون ريب من معدلات الصراع بين الأطراف المعنية، بغرض فرض أمر واقع يحسن من آليات التفاوض أو يسمح بمنطق فرض الشروط.


رامي شفيق

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!