-
حركة النهضة في تونس..البراجماتية ومسار التصدعات
ثمة تمثلات في عدد من الدول التي اضطلع الاسلام السياسي بمهام تنفيذية داخل دوائر السلطة فيها، خلال العقد الماضي، تماهت مع عدة أمور تتصل بعمق الصراع وحدته الذي يدب داخل تلك التنظيمات، ويضرب قواعده الرئيسية، فضلاً عن امتداد أطراف الصراع ومحاوره ضد الحركات السياسية المدنية الأخرى، التي تقف على النقيض من أدبياته وممارساته. وغالباً ما تدور سياقات ذلك النزاع التقليدي بين الطرفين، عبر قضايا الشأن الداخلي والمحلي، وأزماته، بهدف السيطرة على كافة مفاصل الدولة والهيمنة على مراكز القوى.
مقاربة تلك الحالة، تستقر داخل السيناريو التونسي، وما تتعرض له من خلال ممارسات راشد الغنوشي، رئيس مجلس النواب التونسي، وزعيم حركة النهضة، الذراع السياسي لجماعة الاخوان في تونس، حيث تشهد تحركات مريبة داخلياً وإقليمياً، دفعت الرئيس التونسي، قيس سعيد، إلى التصريح غير مرة أن الحرية لا تعني الارهاب اللفظي والمعنوي، وأن جملة التصرفات الصادرة من نواب حركة النهضة، والموالين لها إنما تضع البلاد على محك الأزمة الشرعية والدستورية، كما تدفع البرلمان وهيئته نحو التوتر، ومن ثم، إتخاذ إجراءات تضع رئيس الجمهورية أمام مسؤولياته الوطنية.
يأتي تاريخ تأسيس حركة النهضة التونسية مماثلاً لغيره من حركات الإسلام السياسي، التي شهدت صعودها، في سبعينات القرن الماضي، بيد أن العام 2011، يمثل متغيراً في تاريخ الحركة؛ إذ مهد خروج الرئيس التونسي بن علي من المشهد السياسي ممراً لانتشار الحركة وتبوأ المشهد السياسي، فضلاً عن العام 2016 الذي شهد المؤتمر العاشر للنهضة، وفيه تم الفصل بين العمل الدعوي والسياسي، باعتبارها حيلة لجهة التقرب إلى عموم الشعب التونسي، الذي يحتفظ بذكريات طازجة من عقد الرئيس بورقيبة الاجتماعية، بخاصة جملة أفكاره الانفتاحية.
بيد أن الواقع يشي بأن ممارسات حركة النهضة خلال الفترات السابقة، واختبارات رئيس الحكومة، واستطلاعات الرأي العام الأخيرة، خسراناً مبيناُ لشعبية الحركة لدى قواعد الشعب التونسي.
يتمركز محور الفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي، الذي تبنته حركة النهضة التونسية، في مؤتمرها العاشر، على رهان في ذهنية زعيمها راشد الغنوشي، الأمر الذي عبر عنه الغنوشي في تصريح له، بأن مصطلح "الإسلام السياسي لم يعد مبرراً في تونس، ونفضل "مسلمون ديمقراطيون".
ثمة نقطة مفصلية عند الاشتباك مع حركة النهضة التونسية، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، تتمثل في كوننا بصدد الفرصة الأخيرة لمشروع الإسلام السياسي، في الشرق الأوسط، وذلك في ظل الأعباء التي تتحملها الحركة، وتعيش تحت وطأتها الثقيلة على إثر من فشل التنظيمات المماثلة في مصر والسودان، وتداعيات ذلك على الرأي العام في تونس.
ويضاف إلى ذلك، أن الغنوشي في تونس يدرك جيداً في ظل تلك الشروط السياسية محدودية خياراته الإقليمية، وأنها تصب خارج الرهانات التاريخية للشعب التونسي، خاصة، فيما يتعلق بالأزمة الليبية، واتصالاته التي تثير ريبة وشكوك جمة مع الجانبين التركي والقطري، سواء في ما يخص الأزمة الأخيرة، من جهة، أو محاولته الفاشلة لتمرير اتفاقيات أمنية، تخدم توجهات أردوغان، وبنية حزب العدالة والتنمية الأيديولوجية، من جهة أخرى؛ والتي ترسخ مصالح تركية في الشرق الأوسط.
يذهب البعض نحو اعتبار فشل حركة النهضة في تمرير حكومة الحبيب الجملي، أقسى الضربات التي تعرضت لها الحركة، في الفترة الاخيرة، لكن الشهور والأيام التي تلتها ذلك الاخفاق في العا الجاري، طرحت تحدياتها الحقيقية التى تواجه الحركة التي تحوز غالبية في مجلس النواب التونسي، مما يفرض عليها العمل بمسؤولية الأغلبية، داخل النافذة البرلمانية، غير أن الممارسات الأخيرة لأعضاء حركة النهضة جاءت معظمها ضد تلك المسؤولية، بل شهدت توجيه تهديدات ضد أعضاء ورؤساء أحزاب آخرين، فضلاً عن الاتهامات التي طاولت زعيم الحركة حول قيامه اتصالات ولقاءات مع الجانب التركي والليبي ضد مصالح الأمن القومي التونسي، ومن ثم، مطالبة البعض بتفريغ تلك المكالمات ووضع ذلك كله في اطار التحقيق.
مثلت وفاة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، أواخر تموز (يوليو) العام 2019، متغيراً في الحياة السياسية التونسية، بينما بدت تداعياته وآثاره في مشهد الانتخابات الرئاسية والتشريعية؛ إذ أنتج مجموعة من المتصارعين على مراكز القوى، الأمر الذي يبدو في ممارسات الكتل السياسية المتباينة، على مدى تباين الانساق الأيديولوجية المؤسسة لتلك الكتل، ناهيك عن الشقوق والتصدعات داخل حركة النهضة على أطراف تعقد المشهد السياسي داخلياً وارتباكاته إاقليمياً.
وعلى خلفية ذلك، أعلن الغنوشي البالغ من العمر 78 سنة بياناً اشار فيه إلى حل المكتب التنفيذي للحركة، وتحويله إلى مكتب لتصريف الأعمال؛ إذ أنها تعتزم إدخال تعديلات في تركيبة المكتب، استجابة لمتطلبات المرحلة واستحقاقاتها. وقال المكتب الإعلامي للحركة في بيانه: "على إثر ما راج من أخبار بخصوص إعلان رئيس حركة النهضة، الأستاذ راشد الغنوشي، حل المكتب التنفيذي، وتوضيحاً لهذا الأمر يهمنا أن نبين أن رئيس الحركة أعلن خلال اجتماع المكتب، عن اعتزامه إدخال تعديلات في تركيبة المكتب استجابة لمتطلبات واستحقاقات المرحلة".
يمثل المكتب التنفيذي داخل حركة النهضة من الناحية التنظيمية النافذة الثانية بعد مجلس الشورى، ويأتي كافة أعضاء المكتب التنفيذي بترشيح مباشر من رئيس الحركة، ثم موافقة العدد المطلوب من مجلس الشورى، فضلاً عن أحقية رئيس الحركة في إعفاء من يرغب من أعضاء المكتب التنفيذي.
لايمكن تجاهل ذلك القرار على واقع ومستقبل والحركة، كما لا يمكن قراءته بمعزل عن سياقات الصراع وسيناريوهات التصدع التي طاولت بنية الحركة داخلياً حول عدد من القراءات المتصلة بمدى التوافق على حكومة الجملي، ثم وطبيعة التعاون مع حكومة الياس الفخفاخ، وكذا، الرؤية الأحادية للغنوشي ورغبته الانفراد بالرؤية والقرار حيال القضايا المشتبكة داخلياً وإقليمياً.
ذلك كله يشير إلى ثمة رؤية تتشكل بواقعية نحو تصدع داخلي، وفقدان الحركة المتجذرة بتراث الإسلام السياسي رأسمالها التنظيمي، القائم على البيعة والسمع والطاعة، بالدرجة التي ظهرت في انشقاق بعض قادتها حينما تعرضوا لسؤال الحكم والمسؤولية السياسية.
ورغم محاولات حركة النهضة، ورئيسها راشد الغنوشي، الابتعاد عن نسق تنظيمات الإسلام السياسي، وشبح السقوط المدوي الذي تعرضت له من خلال مغازلة الشعب التونسي بشعارات براقة وتقديم البراجماتية السياسية، إلا أن تجربة الشهور الأخيرة تفضح مسار الحركة المتصل بتجربة حزب النهضة وارتباطهما العضوي، وأنه لن يمضي نحو الاستقرار والقبول من جانب الشعب التونسي، من جهة، والرئيس قيس سعيد، من جهة أخرى، وذلك على خلفية ممارسة الحركة وأعضائها الغارقة في أنساق التمكين والقفز على كافة مفاصل الدولة والحكم، وتصفية استحقاقات الأطراف الأخرى، وربط السياسة الخارجية التونسية بمصالح وأهداف السياسة الخارجية لتركيا ورئيسها، رجب طيب أردوغان، من خلال الملف الليبي.
رامي شفيق
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!