الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الحرب في قصص
بسام سفر

حولت الحرب السورية الإنسان السوري من الحياة الطبيعية والعادية إلى حالة خاصة غير قابلة للتداول سوى في مناطقها، وفشلت كل محاولات جعل الاستثناء شيئاً طبيعيأً، فمن الصعب على الإنسان اعتياد "الموت، الدمار، الاعتقال، الاستغلال للإنسان بكافة صنوفه سواء للأنثى أو الذكر، الهجرة، اللجوء، حياة المخيمات خارج مناطق سيطرة النظام".


هذا الاستثناء رصدت بعض جوانبه المجموعة القصصية "قومي يا مريم" للقاصة والكاتبة رباب هلال، التي كتبت العديد من المجموعات القصصية منها "تلك المرآة تلك النار، أجراس الوقت، ترانيم بلا إيقاع، دوائر الماء والأسماء"، وكتبت للأطفال "بساط فراتي"، وترجمت عن الفرنسية للأطفال "أجمل مكان في العالم". ومجموعتها الجديدة "قومي يا مريم" صادرة هذا العام عن دار التكوين بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون - آفاق".


تعالج هلال شخصية قصة "غاردينيا بين الأصابع" بمنولوج يوضح اغترابها عن الواقع السوري في ظل الحرب إذ تقول: "في الطريق، يجتاحني شعور بالخفة، رغم ثقل الأصوات المتأججة"، وتشرح شعورها الغريب حيث قالت: "شعور طارئ ذلك الذي معه تحمي أحاسيس بالغة الثقل خلقتها الحرب. أراني أتناقض: أشعر بالبرد، رغم أننا في أواخر الربيع، ألست أناقض ذاتي فعلاً في زعمي أنني اليوم أتخفف من الغصات والحرقات على من فرغت حياتي منهم؟".


وتنقل حالة أخرى عاشتها الشخصية عندما تصبح في الحارة "أصل إلى حارتي. أدخل الزقاق. يتوه مدخل مبنى شقتي مني. أتلفت إلى الأبنية المجاورة بحثاً عمن يرشدني. لا أسمع صوتاً للجيران أو لثرثراتهم الصاخبة المعتادة".


التسلل من حالة الضياع تحديدأً ما ينتاب الشخصية إلى وصف الحالة التي تعيشها بعد القصف "من بين أصابعي، انبثقت زهرة غاردينيا مثل خاتم. فوق بتلاتها البيضاء ما تزال قطرات الماء تلتمع قبل قليل، كنت أسقي شجيرتها وأغسلها. طرطشني الماء، بلى، وبللني. لكنني لا أشم رائحة لأزهارها! الألم ينوس. ينوس. يختفي الهواء، مثلما يختفي باقي جسدي وشجيرة الغاردينيا وشرفتي تحت أنقاض المبنى وغبار ركامه المتطايرة".


أما شخصية قصة "الحاجز" تخاطب ذاتها بالقول: "باتت القراءة ضرورة ملحة خلال السفر. فالحرب تبدد الوقت وتغتاله". وتلتقي في الاستراحة بصديقة قديمة توصف أفعالها "تشير إلى النادل لتقديم فناجين من القهوة. قالت بمرح: (الحرب مثل الحب، لا تترك أية فسحة لغيرها في التفكير أو الذاكرة) ضحكنا. قدمت لي نفسها من جديد".


وشخصية قصة "سكر بنات" ينصحها طبيبها بالاسترخاء "لم تسأله يوماً في كيفية استرخائها بين حربين، حرب أمام باب بيتها وحوله وفوقه، وأخرى خلفه، هنا في الداخل! حربان تدمران أية عزيمة للاسترخاء والتعقل والهدوء. ولا تبقيان لها غير المهدئات حلاً للنوم والهروب".


وتصف الشخصية، كيف كان يتهرب زوجها منها "كثيراً ما كان يتذرّع بالحرب التي دمرت الأجساد والنفوس والبلاد. ويتهمها بولعها بالنكد والقبح والتشاؤم. فعلاً، الحرب تدمر كثيراً من الأمور، إنما أول ما تدمره الهشاشة في النفوس، في العلاقات بين البشر، وفي البلاد".


وتسرد في قصة "صباح مختلف قليلاً" على لسان إحدى الشخصيات، قائلة: "اندلع رصاص قطع الكلام. كأنه اندلع في الزقاق ذاته. رصاص صق الآذان وأجفل الأبدان. علقت زبونة تنتظر دورها: (صار أصغر الزعران يحمل بمبكشن. حتى صرنا لا نميز علام يطلق الرصاص)". وتعلن نحت مصطلح احتجاجي على الحرب "حين استعرت الحرب، اندلعت هذه الـ(يلعن) من الأفواه، متبوعة بكلمات عدة مثل: (يلعن كل شيء). (يلعن أبو العالم). (يلعن من كان السبب)". وفي قصة "موعد غرامي" تسرد الحوار التالي على لسان إحدى الشخصيات حيث تقول: "على كلّ، الله يرى كل شيء!". "الله لا يرى شيئاً"! كادت ترد على تهديد أمها. وتفكر: (لو أنه يرى لرأى هذه الحرب الوسخة الطويلة، ولرآني".


إن ردود الفعل على ما يجري في الحرب لا يقف عند الاتهام إلى الخالق أنه لا يرى ما يجري وإنما يتعدّى ذلك إلى مخاطبته بكل الظلم الذي يقع في البلاد بأن موقفه مما يجري خارج إطار مظلومية العباد إلى مكان آخر في الحياة هي عدم مواجهة المظلومية من الزاوية الفردية، وتحويلها إلى مظلومية جماعية.


وفي قصة "لو تمسك بي يدك" تجد الشخصية تعالج قضية اختفاء الحبيب في زمن الحرب "ومثل الليالي السابقات والتاليات، وفي الوقت المتأخر ذاته، ودوي الحرب ما يزال يهز نوافذ لبيت وأبوابه! أمضي إلى الكمبيوتر، أفتح الفيس بوك، أتصفحه، ما في جديد غير أسماء الشهداء، الغياب المختفيين، وصورهم! وصورة لك ثانية وثالثة، تلحق بها تعليقات من يعرفك ومن لا يعرفك، تختصر عاماً من اختفائك. تسأل عنك وتنتظرك بالأمل عودتك. أقرؤها كلها بصلوات دموعي. وقلمها أسفح دمعتي في كتابة ما إليك! فالكتابة تصعب وتتقزم وسط أتون متأجج".


بسام سفروترصد ما يقع على الأمكنة في قصة "الضيوف"، بالقول: "في الحرب يندثر المكان ويموت، ويحيا الزمان مشوهاً، مقتلع العينين، أصم، أبكم، وبرعونة يخلط النهارات بالليالي، ويخنق الساعات والأنفاس. قذفت الحرب أبي إلى السماء السابعة منذ سبع سنوات ونيف. رحل متخففاً من قهر إضافي. قتلته الحرب قبل أن تهجره من بيته. كان ذلك عزاء لنا أضفناه إلى العزاءات الأخرى، مات في سريره، ما يعني أن لدينا جثته، ولديه قبر، وشاهدة نقش اسمه عليها. خلال الحرب، تبتكر عزاءات عجيبة، تتلاصق كحبات مسبحة في خيط من الكذب على الذات".


وتصل إلى نتيجة خاصة بها تعممها شخصية "الضيوف" من خلال سردها لحكايتها "في الحرب لا بيوت، هي مجرد مأوى للعبور. أدرك أنها كذلك خارج نطاق الحرب. إنما في هذه المقتلة، يختلف بيت العبور عنه في الحالتين، كاختلاف العبوريين والموتى".


أما في قصة "قومي يا مريم" تحكي قصة أبي سعيد الثمانيني، وزوجته المريضة التي لا تعرف شيئاً عما يجري في سوريا في زمن الحرب والمطلوب من أبي سعيد أن يرعى زوجته في زمن تساقط القذائف "ينزل رجله اليمنى عن السرير. صوت انفجار غير بعيد (قذيفة أخرى! يا رب الطف بعبادك) لم تكترث مريم في جمهورها. يهدأ، ينصت بترقب إلى ما يحدث في الجوار، فقد يتبين مرمى القذيفة".


تتنوع حكايا الحرب في قصص "قومي يا مريم" للكاتبة رباب هلال وتتعاظم مأساة السوريين العالقين فيها بشتى أنواع الموت القائم والمؤجل، فمنهم من "قضى نحبه ومنهم من راح ينتظر"، فالإنسان السوري في ظل هذه المعمعة الكبيرة لم يعد عقله هو الذي يعمل في تمييز حالته غير الإنسانية، فالعقلية الجبرية القدرية هي التي تقود الإنسان السوري، والحالة السورية، ويظهر ذلك في أكثر من قصة، منها "غاردينيا بين الأصابع" حين تقول الشخصية: "الألم ينوس. ينوس. يختفي الهواء، مثلما يختفي باقي جسدي وشجيرة الغاردينيا وشرفتي تحت أنقاض المبنى وغبار ركامه المتطاير"، بينما شخصية قصة "سكر بنات" تبحث عن الاسترخاء القدري بين حربين "حرب أمام باب بيتها وحوله وفوقه، وأخرى خلفه، هنا في الداخل! حربان تدمران أيه عزيمة للاسترخاء والتعقل والهدوء".


وتتجلى القدرية في قصة "صباح مختلفة قليلاً" حيث شخصية القصة تقول بأنه "علقت زبونة تنتظر دورها: (صار أصغر الزعران يحمل بمبكشن. حتى صرنا لا نميز علام يطلق الرصاص!".


وتسيطر القدرية والجبرية في قصة "لو تمسك بي يدك!" عبر الأفعال الخارجة عن الشخصية "أفتح الفيس بوك، أتصفحه، ما من جديد غير أسماء الشهداء، وأسماء الغياب المختفين، وصورهم! وصورة لك ثانية وثالثة، تلحق بها التعليقات من يعرفك ومن لا يعرفك، تختصر عاماً من اختفائك".


إن العديد من شخصيات قصص "قومي يا مريم" تعيش الحالة المسيرة وليست المخيرة كما في قصة "لو تمسك بي يدك!"، فهي غير قادرة على فعل شيء في الحياة القصصية غير الانتظار ومشاهدته، خصيصاً عند انتظار أسماء الشهداء، وأسماء الغياب المختفين، وصورهم! وتقترب من خير خصوصيتها في "وصورة لك ثانية وثالثة".


إن الاختفاء القسري للشخصية، يقابله الانتظار القدري الجبري لعودتها إلى الحياة الطبيعية، توضح أن الحرب تشارك في صناعة واختيار مصير الشخصيات، وتنظر ظهور أي أشارة أن الحبيب ما زال على قيد الحياة. هكذا تفعل الحرب فعلها في حياة السوريين في مواقع تواجدهم سواء على الأرض السورية أو خارجها.


وتأخذ القدرية في الحرب السورية بعداً مكانياً في قصة "الضيوف" إذ تقول: "في الحرب يندثر المكان ويموت، ويحيا الزمان مشوهاً. فالحرب تمحي الأمكنة وتجعلها أثراً بعد عين".


أخيراً.. قصص "قومي يا مريم" للقاصة رباب هلال تحتاج إلى أكثر من قراءة، لكي توضح جوانباً من رصد الواقع السوري أثناء الحرب، وما بعدها، في تسليط الضوء على ما فعلته في حياة الإنسان السوري.


ليفانت - بسام سفر

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!