الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
إلى السيد قدري جميل.. الغدر الدولي ليس هزيمة سياسية
شفان إبراهيم

عقد حزب الإرادة الشعبية برئاسة قدري جميل، ومجلس سوريا الديمقراطية، برئاسة إلهام أحمد، مؤتمراً صحفياً حول الاتفاق بين الطرفين، شهد بعض المغالطات التاريخية بحق الكُرد، ومن أهمها ما تفضل به السيد قدري جميل قائلاً: “الأكراد بعمرن ما خسروا معركة عسكرية، ولا بعمرن ربحوا معركة سياسية.


وللأمانة فإنّ المقولة مُقتبسة مع بعض التحوير من الكاتب الأمريكي “جوناثان راندل” في كتابه “أمة في شقاق”، حيث يقول: “إنّ الكرد يكسبون الحرب مع خصومهم على الدوام، إلا أنّهم يخسرون ما كسبوه بسهولة على طاولة المفاوضات”، بالمقابل يستحضرني مقولة للسياسي الكردي السوري الراحل أبو أوصمان صبري، الذي قال ذات مرة: “إنّ الكرد لم يدخلوا البازار السياسي، فليدخلوها ذات يوم ولنحكم بعد ذلك”، والمقصد هنا كُرد سوريا.


خاصة وأنّ قطبي السياسية العالمية /أمريكا –روسيا/ صنعت لها ممثلين أو شرطياً لإدارة مصالحهم الاقتصادية، وما يضمن تفوقهم السياسي في المسارات التي يسعون إليها معاً أو فرادى. لكن البازارات السياسية المتعلقة بالشرق، ومشاركة دولها أو كياناتها الفاعلة في تفاصيلها وحيثياتها، يكاد يكون غائباً، أو في أفضل الأحوال يقتصر على تأمين بعض حقوقهم، والتي هي في الأساس تؤدي إما إلى حماية مصالح قطبي العالم، أو بما يمنع من التأثير على مصالحهم. عدا أنّ منابع الشر في الشرق الأوسط، لا تتردد في عملية التفاضل لمنح كل ما تطلبه أمريكا أو روسيا، لقاء ما يؤمن بقاء السؤدد لديها، فكيف للكُرد أن يظفروا بالعملية السياسية، إن كان شركاؤهم المحليين، والإقليميين، والدوليين، تمرّسوا على الغدر، وهي ليست دليلاً على الجهل السياسي، إنّما دافعاً للقوى الكُردية والأجيال القادمة، لتبني سياسة عدم الاكتراث بالآخرين، ما إن تسنح لهم الفرصة من جهة، مالم يغير الآخر من نزعته الإقصائيّة، ومن جهة ثانية فإنّ القصة تتجاوز التخلف السياسي أو الدبلوماسي إلى قضية اتفاق دول عظمى على تقسيمات، لم يكن للكُرد رأيٌ فيها.


غدر دولي وليس ضعفاً سياسياً:


حرب بين الإمبراطوريات، ثم حربين عسكريتين وأخرى باردة، بترساناتها الحربية وعلاقتها العميقة، وميزانياتها الضخمة، ماذا عسى الكُرد أن يفعلوا؟. فالمنعطفات التاريخية أثّرت بشكل مباشر على القضية الكردية، خاصة وأنّ الحربين العالميتين الأولى والثانية تمخضت عنها نتائج أدّت إلى تشكل دول جديدة، وانهيار إمبراطوريات أخرى كالعثمانية، وما حملته من إفرازات ونتائج جديدة على صعيد الجغرافيات ورسم سياسات جديدة، وحدود إدارية وتقسيم دولي، والتضحية بالكُرد وكُل مفاهيم حقوق الإنسان والقوميات.


يتحدّث البرفيسور فؤاد حمه رشيد، في كتابه الجيوبوليتكس المعاصر (تحليل، منهج، سلوك) عن التقسيمات الدولية لكردستان، والتي لم يكن للكرد فيها أي دور، ولم تكن خسارة سياسية للكرد في المفاوضات، إنما تواطؤ دولي وتفصيل مصالحها على حقوق الشعوب، خاصة وأنّ معاهدة لوزان ألغت انتصار الكرد في معاهدة سيفر، فيقول: معركة جالديران 1514 ضمن آليات الصراع الصفوي العثماني، والذي استمر من القرن السادس عشر وحتى الثامن عشر، كان التقسيم الأول لكردستان، وتطوّر الأمر في معاهدة “أماسيا” عام1554، التي أبقت كردستان مقسمة بين الدولتين، وكان الكرد متوزعين على طرفي المعادلة العسكرية، كتحصيل حاصل لتوزعهم الجغرافي وبعض الظروف الأخرى، مع أفضلية وأكثرية الانضمام للجانب العثماني. كما أنّ معاهدة “زهاو” عام 1639 والتي حدّدت شكل العلاقة بين القطبين، كان أساساً للمعاهدات اللاحقة ذات العلاقة بتقسيم كردستان ومد خط الحدود السياسية الفاصلة بينهما على طول امتداد جبال كُردستان، وبهما تم تقسيم كردستان إلى شطرين، شرقية خاضعة لإيران، وغربية خاضعة لتركيا، والغريب أنّ كل التقسيمات اللاحقة لكردستان حدثت في كردستان الغربية(العثمانية) فقط، في حين ظلت كُردستان الشرقية (إيران) خاضعة لإيران دون أي تغيرات كبيرة تُذكر.


التقسيم الثاني: حدث في بدايات القرن 19 بعد تقدم الإمبراطورية الروسية باتجاه ما وراء القوقاز وبحر قزوين، والذي أسفر عن توقيع معاهدة “تركمان جاي” عام 1828 بين روسيا وبلاد فارس، التي تنازل الفرس عن مقاطعاتها الممتدة إلى الشمال من نهر أراس، وهي الحدود الفاصلة للكرد القاطنين في مقاطعة كنجه عن بقية أجزاء كردستان الشرقية، وبذلك خضع جزء من كردستان لروسيا، ثم للاتحاد السوفييتي، والآن أرمينيا وأذربيجان.


التقسيم الثالث: الذي جاءت به معاهدة “سايكس بيكو” 1916، واتفاق روسيا وبريطانيا وفرنسا على تقاسم تركة الرجل المريض، الدولة العثمانية، من ضمنها أراضي كردستان الخاضعة للعثمانية، وضمها إلى مناطق خاضعة لنفوذ تلك الدول، وقسمت كردستان الغربية إلى:


1- جعل مقاطعات بايزيد، وأن بدليس، موش، الأزج (خربوط) أزربيجان، جولمرك، حكار وبوتان، ضمن حصة روسيا.

2- منطقة بهدينان وجزيرة ملاطية، ماردين قامشلو، سري كانيه، أمد، أورفه، غزيان تبه، ضمن منطقة النفوذ الفرنسي الممتدة حتى بهدينان/شمال الزاب الأعلى/ وكلها كانت مخططة لتكون منطقة فرنسية عازلة، بين منطقة النفوذ البريطاني جنوب النهر المذكور، ومنطقة النفوذ الروسي، بسبب العداء التقليدي بين الدولتين، لكن انسحاب روسيا من الحرب الأولى بعد الثورة البلشفية التي حدثت فيها عام 1917 أتاح الفرصة لإيطاليا أن تشارك كل من بريطانيا وفرنسا في ذلك التقسيم. ومنحت إيطاليا على أثرها مناطق أزمير وقونيه وجميع مناطق غرب الأناضول، وهي جميعاً خارج كردستان تركيا حالياً.

3- وقوع المنطقة الممتدة من نهر الزاب الأعلى /الكبير/ وحتى السليمانية وكرميان ومندلي وخانقين وجبال حمرين ضمن منطقة النفوذ البريطاني.

التقسيم الرابع: “معاهدة سيفر” 1920، والتي أشارت ضمن تلك التقسيمات إلى إنشاء دولة كُردية فوق مساحة 45 % من أراضي كُردستان وفق المادة62، على أن تنضم إليها ولاية الموصل، حسب المادة 64، أما باقي مناطق كُردستان فتم تقسيمها وفق ما يلي:


1- منح حصة روسيا من سايكس بيكو إلى أرمينيا ضمن المعاهدة.

2- تعديل منطقة النفوذ البريطاني بعد إلحاق بهديدنان بها، والتي كانت ضمن منطقة نفوذ فرنسا سابقاً، وتم الاتفاق على هذا التعديل في اتفاق سان ريمون 24 نيسان 1920.

التقسيم الخامس: وهو ما تعيشه كردستان حالياً على إثر توقيع “معاهدة لوزان” بين دول الحلفاء وتركيا الكمالية في24/ 7/ 1923، بعد أن وعد كمال أتاتورك الغرب بإزالة الطابع الإسلامي عن الدولة العثمانية ومواجهة روسيا السوفيتية. حيث حصلت تركيا على الاعتراف الدولي بها، وتثبيت حدودها الجنوبية مع دولتي سوريا والعراق في 1926، و1930، وبذلك فصلت هذه الحدود كل من كردستان العراق وكردستان سوريا عن بقية أجزاء كردستان تركيا، وكانت معاهدة لوزان ضربة لمنع الحلفاء من تنفيذ معاهدة سيفر، فهي عدا عن كونها أصبحت البديل عن تلك المعاهدة، فإنها شكلت اعترافاً رسمياً واضحاً بحكومة كمال أتاتورك البديلة عن حكومة السلطان المخلوع في تركيا، وألحقت مناطق شاسعة من كردستان تركيا تحت سلطة كمال أتاتورك، ومنعت تنفيذ المادة 64، أي ولاية الموصول، وبقيت ضمن مناطق الانتداب البريطاني. ما يعني أنّه كان بإمكان بريطانيا تشكيل دولة كردية ضمن تلك الولاية، لكنها فضلت تشكيل دولة العراق بدمج ثلاث ولايات لا رابط أو وحدة مذهبية أو إثنية تجمعهم، فقسمت أراضي كردستان ما بين منحها لتركيا أو تشكيل دولة العراق أو سوريا. وضمن سياق التقسيمات الدولية، يورد الكاتب والباحث الكردي “كوني رش” في كتابه “تاريخ القامشلي_ دراسة في نشوئها وتطورها الاجتماعي والعمراني” أنّ الجزيرة تقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:


1- الجزيرة العليا: وهي تشمل كل القسم الجنوبي داخل الحدود التركية. 2- الجزيرة الوسطى: وهي التي داخل الحدود السورية، 3- الجزيرة السفلى: وهي التي داخل الحدود العراقية. ويضيف الباحث، أنّ منطقة برية، ماردين، التي كانت جزءاً من الجزيرة السورية الحالية، وهي الواقعة بين نهر الخابور والجقجق، جغرافياً وأثنينا وتاريخياً، تشكل بلداً واحداً، وتقسم المنطقة إلى القسم الشمالي ويعلوه جبل ماردين وجبل أومريان، والقسم الجنوبي منه برية ماردين، وهي تشكيل اليوم 120 كم طولاً محاذياً للحدود السورية التركية.


الغدر بالقضيّة الكُردية مابين روسيا وأمريكا



يضيف السيد قدري جميل أنّ “الأمريكان لا يوثق بجانبهم وأنّهم يغدرون بحلفائهم. وأّنه -قدري جميل- سبق وأن حذر الكرد أنّ أمريكا ستستعملهم وترميهم، لكنها تستعملهم للمرة الثانية والثالثة”. ما قاله قدري جميل صحيح، وهو يقصد روسياً أيضاً بذلك، إذ هي الأخرى غدرت بالكرد على مر التاريخ، فهل نسي السيد جميل أنّه من نتائج الغدر السوفيتي بالكرد انهارت أول جمهورية كردية في القرن الماضي، ولولا تواطؤ السوفيات لما عاد وتكرر مسلسل ضياع الشعب الكردي من جديد؟.


كما أنّ اتفاقية الحكم الذاتي التي انهارت بسبب اتفاقية الجزائر المشؤومة 1975، والتي تنازل بموجبها النظام العراقي عن مساحات من شط العرب مقابل قمع الكُرد وثورتهم وإنهاء اتفاقية الحكم الذاتي، وإن كان لأمريكا دور مهم في ذلك، لكن لم يكن للكرد دور في العملية السياسية أو حضور جلسة الاتفاق. أما حالياً فإنّ الغدر الحاصل في عفرين والانسحاب الروسي وترك من كانت تسميهم بحلفائها الكُرد نسبة إلى الاتحاد الديمقراطي وقسد، خاصة بعد افتتاح ممثلية للإدارة الذاتية في روسيا، واستقبالها المتكرر لــ”سيبان حمو” قائد وحدات الحماية الشعبية، ثم إلغاء كل شيء ومنح الضوء الأخضر لتركيا لاجتياح عفرين. والاتفاقية التركية –الروسية بعد عملية نبع السلام، وتعهد روسيا بإخراج عناصر قوات سوريا الديمقراطية من المنطقة كلها، ضمن أي خانة يحسبها السيد قدري جميل؟.


استفتاء إقليم كردستان



من أنبل وأعظم الحقوق التي وهبتها الشرائع السماوية والوضعية، هي أن يقرر أيّ مجتمع محلي وشعب يعيش على أرضه التاريخية. ومنها انبثق قرار الاستفتاء على استقلال كردستان العراق، بقرار من الرئيس مسعود البارزاني، وموافقة ومشاركة غالبية القوى السياسية في الإقليم، لولا الغدر المحلي والإقليمي والدولي، مع ذلك فإنّ النسبة المئوية العالية، أثبتت أن لا قيمة للشعوب لدى الغرب. كما رغبت روسيا في استمرار نهجها، على غرار تلك الدول في تتبع مصالحها فقط، فلجأت إلى عقد صفقات في مجال الطاقة (النفط والغاز) مع حكومة الإقليم، وتعهدوا بأن يبلغ حجم التعامل أربعة مليارات دولار في أقل من عام. فشركة “روسنفت”، التي تعتبر عملاق النفط الروسي، أعلنت قبل موعد الاستفتاء بعدة أيام عزمها مساعدة إقليم كردستان على تطوير صناعة الغاز الطبيعي في مجالي الإمدادات المحلية والتصدير بصفقة تتجاوز مليار دولار. ويعدّ ذلك تحولاً لافتاً؛ لأنّه بني على خلفية بحث الروس عن مصالحهم الاقتصادية، وعن أصدقاء جدد في منطقة الشرق الأوسط. فهل يُمكن أن نُسمي ذلك أيضاً، ضعفاً في السياسة أم عدم التزام الدول بقراراتها ووعودها؟.


ويعتقد البعض أنّ الاستفتاء أعلن في وقت غير مناسب، لعله كان من الأفضل لو أجري حين كان العراق يعاني من الضعف العميق وكانت داعش تشكل القوة الضاربة في العراق مع انهيار الجيش العراقي. فهل يعتبر السيد قدري جميل عدم استغلال الكرد في العراق لمآسي العراقيين فشلاً سياسياً؟.


الضعف السياسي



من الصح والمؤكد القول إنّ الضعف السياسي إنما مردّه إلى حالة التشتت والضياع في القرار الكردي الموحد في سوريا، وخاصة الانقسام الحاصل بين طرفي المعادلة السياسية الكُردية في سوريا، لكن إحدى أسبابه هو العامل الدولي نفسه. كما أنّ فشل الكُرد في التقرّب من تركيا بشكل واضح، أو على أقل تقدير الابتعاد قدر الإمكان عن خلق عداوات معها، وضعت أمريكا تحت الضغط التركي للحدّ من تقديم المساعدات لهم أو حمايتهم، وهي بدورها أثرت وبعمق على سياسات الإدارة الذاتية والاتحاد الديمقراطي في إدارة المنطقة الخاضعة لنفوذهم، خاصة وأنّ لا اعتراف رسمي بالإدارة الذاتية، ولم يُسمح لهم بالمشاركة بأيَّ مؤتمرات دولية، عدا عن منع التمثيل الكردي بوفد مشترك في مسارات الحل السياسي في سوريا. والفشل الأكثر ضراوة هو عدم تمكّن الكُرد أنفسهم من تشكيل هيئة سياسية موحدة إلى اللحظة، والاتفاق على قوة عسكرية موحدة، لرعاية مصالحهم وحماية أهدافهم.


السؤال الكُردي



وفقاً للوقائع والتوزيع الجغرافي القائم على الاتفاقيات الدولية، والتي تستند على مسارات وأنساق تمنحها هي وحدها، وبالدرجة الأولى ما يحمي مصالحها وأهدافها، فإنّ السؤال الكُردي الذي يطرح نفسه هو: متّى تواجد الكرد في تلك الاتفاقيات وفشلوا في الإقناع، عدا سيفر وما ظفروا به من وعود في تلك الفترة، التي كانت مبادئ ويلسون منتشرة وتحظى باحترام وتقدير، ثم نسفها لأجل تركيا. فهل كانت روسيا مناصرة للحقوق الكُردية أكثر من أمريكا، أم أنّ الفارق بينهما ينحصر فيمن أضرّ بالكُرد أكثر؟.


القصة باختصار يا سيد قدري جميل المحترم، ليست متعلقة بالخسارة السياسية بعد الانتصار العسكري، الموضوع برمته أن لا أحد حتى الآن ينظر إلى الشعوب في الشرق على أنها تستحق العيش أكثر مما مُنح لها. ولو كان الكُرد غير جديرين بالعمل السياسي، تُرى ما سبب مآسي ومظلومية الأمازيغ، الطوارق، البربر، الأقباط، جنوب السودان، البدون في الكويت، حتى الحوثيين قبل أن يتحولوا إلى استطالات خارجية، هل كل هؤلاء لا يفقهون بالسياسية، ويخسرون دوماً، أم أنّ القصة باختصار تتعلق بعقلية الأنظمة العربية التي تأبى أن تنصر المظلوم وتتعايش مع جميع الأقوام والشعوب، وفق عقد اجتماعي جديد يحمي الجميع ويفيهم حقوقهم الدستورية، وثمة أنظمة عالمية تحمي تلك الأنظمة العربية. وأخيراً، ماذا في جعبتك ومشاريع روسيا لحل القضية الكُردية بما يرتضيه الشارع والشعب الكُردي في سوريا، أكثر من قانون الإدارة المحلية، الذي هو ليس سوى إعادة فرض السطوة والقرار بالقوة من جديد.


ليفانت – شفان إبراهيم

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!