-
قيادي سابق بحركة النهضة لـ"ليفانت": صرّحت منذ 2016 أنه عندما تضيق فضاءات الحوار فسيضطر قادة الحركة الكبار لخيارات أخرى
في حواره لـ"ليفانت" قال الجلاصي: "أجد أنّني لا أرى من المناسب تركيز النظر على حصيلة الأحزاب الإسلامية في الحكم وإنما على مسار نقل مجتمعاتنا إلى الحداثة السياسية والعوائق التي تعترض ذلك، فضلاً عن مسؤولية النخب الجديدة التي ترفع شعارات الديموقراطية والتقدّم مهما كانت عناوين المرجعيات التي تحملها".
وتابع: "ما يزال طريقنا نحو الديموقراطية طويلاً. وأخشى أن يكون تسليط النظر على أخطاء مكونات الطيف الإسلامي، وهي كثيرة، حيلة نفسية، تجنّب بقية ألوان الطيف الفكري والسياسي المواجهة مع الذات والاعتراف بالأخطاء وشجاعة المراجعات".
نصّ الحوار:
*كانت أحداث العام 2011 توطئة لتموقع تنظيمات الإسلام السياسي في دوائر الحكم عبر دول عديدة، كما حدث في مصر وتونس والمغرب، بيد أنّ التجربة استقرّت نحو الانحسار بعد عقد كامل.. كيف تفسّر هذا السقوط؟
أولاً، أخشى أنّ زاوية النظر التي نتناول منها الموضوع ليست هي الزاوية السليمة، على الأقل هذه رؤيتي، فاختيار الحركات الإسلاميّة بعد الثورات ليس بسبب المرجعية الدينية فقط، بل أيضاً بسبب أنّها الحركات التي دفعت الأثمان الأعلى ظاهرياً في مقاومة الاستبداد والفساد، كما أنّها كانت تعطي الانطباع بأنّها الأكثر جاهزية من حيث التأهل الأخلاقي، وكذا من حيث الجاهزية التنظيمية. فلو حصلت هذه التحوّلات في عقد الستينات أو السبعينات لتأهلت التنظيمات اليسارية أو القومية للقيادة عبر صندوق الاقتراع.
ثانياً، أخشى أن يكون هناك اختلاف جوهري حول السقف المتوقع من القيادات الجديدة بعد ثورات الربيع العربي، وهو تحول حصل في المنطقة الخطأ، فلم تحظَ بالدعم السياسي والمالي التي حظيت بها انتقالات مشابهة في أقاليم أخرى من العالم. والسبب الجوهري يتمثّل في أن تعامل الكبار مع منطقتنا تحكمه دوافع أعمق من تلك التي تحكم عادة الصراعات بين الدول. كما لا يمكن أن نغفل استمرار حضور معطى الدين في التعامل مع منطقتنا، هذا هو الإطار الواسع الذي يجب أن ننظر من خلاله لحصيلة التجارب بعد الربيع العربي، إذ إننا ندرك جيداً إمكانية السقوط في فخ التبرير.
ونعتبر أنّه من الأخطاء الكبرى لهذه الحركات الإسلامية، الفشل في حسم الصراع مع القوى القديمة المتحكمة في الدولة. وفِي الحقيقة لم يكن ذلك ممكناً في سياق نصف ثورات أو مشاريع ثورات، والفشل أيضاً في الوصل إلى صفقة تشارك متوازن معها. وغالب المسارات الثورية الناجحة هي التي وصلت إلى صفقة متوازنة مع القديم بشروط تقترب من شروط الثورة، لأنّ صندوق الاقتراع يعطي التفويض الشعبي ولا يعطي معه بالضرورة أدوات الحكم.
تعثر التجربة المصرية ارتبط بموقع مصر في خارطة الرهانات الدولية باعتبارها دولة مركزية وباعتبار موقعها الجيوستراتيجي. أما بالنسبة للحالتين المغربية والتونسية، فقد ظهر الأمر وكأنّ هذه الأحزاب قد غلبت معطى التطبيع مع القوى القديمة على حساب التغيير الذي هو الهدف الأساس من كل تغيير.
ومن بين عوامل الإخفاق، رهن الأحزاب للتموقع في الدولة على حساب البرنامج والهدف من الحكم. إذ إننا ننهل من ثقافة تقتصر الحكم على الحكومة، في حين أنّ المعارضة من مكونات منظومة الحكم. ولقد فوّتت النهضة فرصة الخروج إلى المعارضة في مناسبة أولى عندما اتّضح أنّ برنامج الشريك الباجي قائد السبسي هو صياغة وإعادة تأويل للمشهد بتوظيف أجهزة الدولة عندما قرر إقالة رئيس الحكومة الحبيب الصيد في 2016. كما فوّتت الفرصة مرة ثانية في سبتمبر 2017، عندما تورّطت في تمرير قانون المصالحة الذي كان نموذجاً للإفلات من العقاب. أما في المغرب فقد كانت العهدة الأولى معقولة، وإنما وقع المنعرج عند عرقلة تشكيل حكومة بنكيران بعد انتخابات أكتوبر 2016. فالرسالة التي أراد المخزن توجيهها أنّ السقف الذي وصله بنكيران لا يمكن تجاوزه، بما يعني التحكّم في نسق الإصلاحات. الموقف السليم حينها هو الخروج للمعارضة. كما أنّ إدارة الحكم لن تكون إلا فشلاً يعبر عنه الصندوق القادم.
إنّ معارضة قوية أفضل من حكومة لا تقدر على التغيير. أي حكومة تتحمل مسؤولية الحكم دون أن تحكم. هذا هو درس حكومات المقاومة عندما تواجه امتحان الحكم دون أن تمتلك أدواته. وشرط الاستمرار في الحكم هو القدرة على إنجاز إصلاحات معقولة. غير هذا لن تكون سوى خادمة لمراكز الحكم القديمة.
*ثمّة تشابهات وتباينات بين تجربة تنظيمات الإسلام السياسي في المشرق العربي (القاهرة) وبين المغرب العربي (تونس والمغرب)، غير أنّ النتيجة أمست واحدة.. هل توافق على مسار الترابط بين تلك التجارب؟
الأنظمة في منطقتنا أربعة أصناف. فهناك الأنظمة الملكية والجمهوريات بتنويعاتها، تونس هي النموذج الأقرب للجمهورية المدنية. وطبيعة نظام الحكم مرتبط بسياقات اجتماعية وتاريخية وأيضاً باعتبارات استراتيجية. ولذلك أجد أنني لا أرى من المناسب تركيز النظر على حصيلة الأحزاب الإسلامية في الحكم، إنما على مسار نقل مجتمعاتنا إلى الحداثة السياسية والعوائق التي تعترضها ومسؤولية النخب الجديدة التي ترفع شعارات الديموقراطية والتقدّم مهما كانت عناوين المرجعيات التي تحملها.
ما يزال طريقنا نحو الديموقراطية طويل، وأخشى أن يكون تسليط النظر على أخطاء مكونات الطيف الإسلامي، وهي كثيرة، حيلة نفسية لجهة تجنّب بقية ألوان الطيف الفكري والسياسي المواجهة مع الذات والاعتراف بالأخطاء وشجاعة المراجعات.
*خلال سنوات العقد الفائت وحركة النهضة في تونس تنغمس في سياق التمكين من مفاصل الدولة في تونس. وعلى أثر ذلك، بدا الانشقاق وخروج عدد من القيادات عن الإطار التنظيمي للحركة، كنتَ واحداً من هؤلاء.. إلى أي حدّ ترى أنّ انفراط التنظيم ارتبط باستبداد الرجل الأول راشد الغنوشي؟
لقد أخذت مسافة من تجربة حركة النهضة لاعتبارات كثيرة ذات طابع فكري وسياسي وتنظيمي، ولا أخفي أنّي أشعر بكثير من الأسف لوقوع ما توقعته وعدد من خيرة المناضلين. حقيقة الحقائق أنّ الدولة في هذه البلدان الثلاثة على الأقل لها جذور ضاربة في التاريخ ولها قوى تتستر بها وتحميها، ولن تتحرر من قبضة أصحاب هذه المصالح، لا في عقد ولا عقدين، من القوى التي كانت في الهامش والتي يقذف بها صندوق الاقتراع إلى الواجهة. إن معركة تحرير الدولة وأجهزتها وأدواتها،لكي تصبح ملكاً لمواطنيها وطوع إرادة ما يفرزه صندوق الاقتراع لينفذ بها برنامجه الانتخابي، وفقاً للتعاقدات القانونية وقواعد التصرّف الرشيد، معركة طويلة الأمد.
لقد أخطأت النهضة، وأشرنا للخطأين الأصليين، وما تبعهما من أخطاء (شبهة الحكم من أجل الحكم، شبهة الفساد أو التغطية عليه، خيانة العقد الانتخابي وخذلان القاعدة الناخبة، فقدان البصمة الأخلاقية، وهي في الحكم الصدق والعزم على التغيير).
وهذه الأخطاء هي نتيجة فلسفة في إدارة الحركة، رفضت المسار الديموقراطي والتخطيط الاستراتيجي وحسن التصرّف في الموارد البشرية، وبالإضافة للفشل في إدارة التنوع والتداول القيادي والجيلي والتمسك بالتموقع الاجتماعي المنحاز للمستضعفين حتى يكون بمقدورها أن تتحمل مسؤوليتها وتشكل منظومة قيادية، لكنها لم تقدر على التفاعل مع العصر الجديد. والمؤسف أنّ هذه الأعراض في النهضة تطال كل المكونات الحزبية والجمعياتية حيث أزالت مكونات يسارية وليبرالية، وهو ما فسح المجال أمام الشعبوية الفاشية والشعبوية العدمية. أمراض هذا المشهد الحزبي والمنظماتي هي التي تفسر سياسات وقرارات قيس سعيد، وهي التي تفسر المواقف المعارضة والمتشددة بعد ذلك قبل أن تتسلم قوى على هامش هذا المنتظم المبادرة للتصدّي والمقاومة.
*صباح يوم 25 أيلول (سبتمبر) الماضي، أعلن عدد من الأسماء المهمة في حركة النهضة التونسية استقالتهم من التنظيم على خلفية اعتراضهم على توجهات الحركة وسياسة زعيمها، لا سيما مع تطورات الأحداث السياسية في تونس.. كيف قرأت بيان الاستقالة؟
ليست لدي مسافة الأمان الكافية لأتحدّث في شأن حزبي السابق بالحيادية المطلوبة، وحتى إن فعلت فالمتقبّل سيجد صعوبة في الفرز بين التحليل الهادئ وأحكام مسؤول كان جزءاً من المعادلة الداخلية للنهضة.
كل ما أقوله إن هذه الاستقالة لم تكن مباغتة، وقد نبه كثير من العقلاء إلى هذا المآل، وقد صرّحت منذ سنة 2016 أنه عندما تضيق فضاءات الحوار فسيضطر عدد من قادة الحركة الكبار إلى خيارات أخرى فلا أحد يقبل الاختناق.
*ثمة رؤى أن بعض الشخصيات التي استقالت تذهب نحو تكوين حزب جديد بعيداً عن هيمنة راشد الغنوشي وقبضته الحديدية.. هل توافق على هذا التصوّر؟
من بين المستقيلين لدي أصدقاء وشركاء في معارك الإصلاح الحزبي والوطني، ولكن تفرقت بنا التقديرات، منذ مارس 2020، حينما قرّرت الاستقالة منفرداً. لا علم لي بالخطوات اللاحقة ولا أسمح لنفسي بالتخمين.
*ما هو تصوّركم لمستقبل حركة النهضة في تونس، خاصة مع الرفض الشعبي الذي تواجهه من طبقات الشعب المختلفة، ومع بعض التأويلات التي تذهب أن بيان الاستقالات الأخير مناورة للالتحام مع قواعد الحركة بعيداً عن احتمالات الحل من قبل الدولة؟
اكتشفت في كتابي الأخير "من الجماعة إلى الحزب السياسي إدارة التغيير في سياق انتقالي" وجود بنية ثقافية مشتركة تحكم عقلنا السياسي بقطع النظر عن المرجعيات. بهذا المعنى أعتبر أن مشهداً برمته قد أنهى رسالته ولم يقدر على التجدّد، وأنّ جيلاً آن له أن يتأخر خطوة، وأنّ زمناً جديداً يدقّ أبوابنا، هو زمن إنساني تُسائل فيه السياسة علاقتها بالفكر والحلم وبالأخلاق، وتسائل فيه الديموقراطية أدواتها، ومن ضمنها الوسائط والمؤسسات.
كيف نندرج في الإنساني؟ هذا هو السؤال بدلاً من تبسيط القضايا وتصفية الحسابات ومواصلة الهروب إلى الأمام.
ليفانت - رامي شفيق
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!