الوضع المظلم
السبت ١٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
سجن في مصحة عقلية
سجن في مصحة عقلية

عندما ينظر أي قاض في قضية جنائية خطيرة ويقتنع أن المتهم مذنب ، و يكتشف قبل أن يصدر حكمه أن المذنب مختل عقليا أيضا ، فماذا يفعل ؟ هل يتركه لعدم سلامته العقلية ليفعلها مجددا ؟ أم يسجنه ويحمله مسؤولية أعماله رغم فقدانه للأهلية العقلية ؟ ... فكل مجرم يقدم على فعلته لابد أن يكون في ظرف مضطرب وغير طبيعي ، أو له بنية منحرفة بسبب تكويني أو مكتسب ، فالجنون والجريمة مشكلة حقوقية معقدة فعلا ؟


سجين شاب له سجل عدلي حافل منذ طفولته البائسة ، قضى معظم سنين مراهقته في سجن الأحداث ثم تخرج منه لسجن عدرا ، كان عندما يمر بحالة هياج يستعصي ويهدد بتشطيب نفسه ، ورغم أنه كان فعلا يقطع جلده بالشفرة لكن ذلك لم يعد يفلح مع الشرطة ، حتى اكتشف طريقة أخرى أثبتت فعاليتها أكثر وهي التهديد بتمزيق صورة حافظ الأسد المعلقة في المهجع ، مما يضطر الانضباط والشرطة لمسايرته خوفا على الصورة ومنها ، كرر هذه الحادثة عام 2006 عندما كان معي في المهجع 611 في سجن عدرا ( الصورة أعلاه لي وراء باب تلك الغرفة ) ، ودخلت الشرطة واحتاروا ، لكن الضابط الذي شعر بالحرج أمامي وأنا أرقب المشهد ساخرا وسط جمهرة من نزلاء المهجع المئة الذي ينظرون بشغف لهذا المشهد الإشكالي ( مجرم يحتمي بقدسية صورة حافظ ويهدد بتدنيسها ) ، انفعل الضابط وهاجم السجين الذي مزق الصورة فعلا ، واقتادوه بالضرب لمفرزة التحقيق مع الصورة الممزقة ( الدليل الجرمي ) ، ثم بعد عقاب في المنفردات ، حولوه للقضاء العسكري بتهمة تحقير رئيس الدولة ، فطلب مني السجين بعد أن بوشر بمحاكمته أن أكتب له دفاعا ليقدمه للقاضي ، كإجراء شكلي لا بد منه ، وكانت تسعيرة هذه التهمة هي الحكم ستة أشهر تضاف لأحكامه الأخرى ، فكتبت له دفاعا ، ذكرت فيه سجله العدلي وسبب توقيفه المتكرر ، ثم انتقلت للجانب القانوني في القضية :


1- تمزيق صورة أي شخص موضوعة في مكان (ليس خاصا) لا يعتبر إهانة فنحن نمزق الجرائد التي تحتوي دوما صور القادة وأسماءهم وأقوالهم ، ونمسح بها ونرميها مع القاذورات ، والصورة موضوع الجرم كانت معلقة في مكان غير محترم ومخصص للقتلة والمجرمين ، وكما يقول المثل العربي : الكريم من جَبّ مهانة نفسه.


2- تمزيق الصورة لم يكن بهدف الإهانة بل الوسيلة الوحيدة لردع الشرطة عن ضربه بوحشية، فهم شريكون بالجرم أيضا.


3- الصورة موضوع الجرم هي لشخص متوفي وليست لرئيس الدولة، وبالتالي لا يحق للنيابة العامة أن تأخذ صفة المدعي، في هذه الحال لا بد من مدعي شخصي .


4- بما أن بشار الأسد هو رئيس الدولة وهو لم يرفع قضية تحقير عائلته شخصيا على المتهم فإن الدعوى تسقط شكلا .


طبعا محمد أحمد عويشات 20 عاما يومها ، قدم دفاعه الذي كتبته له بخط يدي، وفي الجلسة التالية أصدر القاضي العسكري حكمه بوضع المتهم في السجن الاحترازي في مشفى ابن سينا للأمراض العقلية لمدة شهر ، أي عمليا حكمه بالبراءة ، لأن هكذا اجراء لا تقوم به ادارة السجن بالنظر لتشابه الواقع بين مشفى ابن سينا ، وسجن عدرا المتجاورين والمتشابهين من كل النواحي ، هناك يسجن المهلوسون ، وهنا يتناول المسجونون حبوب الهلوسة ( البالتان ) ليتأقلموا ، فلكي تعيش في هكذا مكان يجب أن تكون مجنونا ، وإذا عشت ولم تكن مجنونا تصاب به ، أو ترتكب جرما ، أو كلاهما معا هو السائد ...

هذا الوضع للنزلاء لا ينطبق فقط على السجن أو المصح العقلي بل أيضا على مستخدمي مؤسسات ومدارس وثكنات ومعامل الدولة كلها ومن ضمنها سلك الشرطة والقضاء والجيش والجامعة ... فهي عبارة عن سجون نزلاؤها يتعرضون للقمع والإهانة ويعانون من تشوهات عقلية وعاطفية كثيرة : الهلع والخوف المفرط ، الجنون الآيديولوجي ، التذلل والاستعباد ، الرقص المجنون في الشوارع احتفالا بمن يكرهون ،،، ويرتكبون جمعا معظم أنواع الجرائم والجنح بحق بعضهم وبحق المواطنين ، كالاهمال والرشوة والتشبيح ( أي السطو بإرهاب السلطة) والاختلاس والاحتيال والتهرب الضريبي والغش ، ناهيك عن التجسس والوشاية والنميمة والخطف والترهيب والتعسف ... والتي كلها تتسبب في تحطيم السلم الاجتماعي وتوليد بيئة مناسبة لنمو كل أنواع الجرائم الأخرى التي لا تختلف عنها ، لكنها تمارس بصفة فردية وليس ضمن النظام العام للدولة المحمي بموجب القانون ،


محمد عويشات باشر ثورته على طريقته عام 2006 ، أي قبل خمس سنوات من ثورة بقية الشعب ، أدرك محمد هذا الجنون الجمعي ، في تأليه الفرد ، وهددهم بما يخافون منه وهو إرهاب السلطة ، ومزق الصور متحديا لجنونهم ... لكن محمد الثائر هو أيضا مصاب بخلل بنيوي وتكويني وأخلاقي وسلوكي وعقلي نتيجة الظروف القاسية والافساد الثقافي الذي عاشه ، وهكذا حملت ثورة أقران السجين محمد بعد خمس سنوات في الكثير من المواقع الكثير من التشوهات الثقافية والسلوكية ، ومارست الممارسات التي كانت ضحيتها ، وعجزت عن انتاج حالة نوعية جديدة أرقى من الفوضى أو الاستبداد .


في النتيجة وبعد ثمان سنوات من الثورة ، والحرب الضروس والصراع المرير لم يتغير الحال أبدا ، ولم أشعر أنني قد خرجت من ذلك السجن لوسط آخر ، ولم ألمس ذلك لا في المناطق التي تحت سيطرة النظام ، ولا في المحررة منه ، ولا حتى في مخيمات اللجوء أو المهجر ... فمن تسلط بشار المعتوه المجرم ، وفريقه الذي قرر أن يدافع عن سلطته بتحطيم دولته وتهجير شعبه وجلب جيوش الاحتلال ... وصولا إلى البغدادي ، والجولاني وأمثالهم من مجانين الدين الذين فهموه قتلا واجراما وخيانة وتسلطا على العباد بأبشع الطرق ، إلى قادة المعارضة المعاتيه المختلسين ، في المجلس اللا وطني والإتلاف ، ثم في الهيئات والمنصات الذين يبيعون ضمائرهم وأصواتهم بتيكيت طيارة وحجز فندق ، وصولا لأعضاء اللجنة الدستورية الذين لديهم كامل الاستعداد لمسح الأحذية مقابل الراتب 1500 دولار الذي يأخذونه ، وكلهم يظنون أنفسهم بأنهم أنظف وأشرف الناس ، وأنهم يقومون بخدمة جليلة لوطنهم الذي من دونهم سينهار وينتهي ، ويتحفونا بتلك الخطابات والاطلالات والتصريحات عن المستقبل المشرق الذي سيأتي على أيديهم .... وهم جملة مجموعة معتوهين ومنحرفين أخلاقيا وسلوكيا وعقليا ، ومرتكبين لجرائم متعددة أقلها ادعاء تمثيل شعب لم يفوض أحد منهم .


الطبقة السياسية كلها قد حولت سوريا المحتلة والمحررة وبلاد المهجر لسجن احترازي في مشفى عقلي (يوجد حيث يوجد تجمع لسوريين ) ، بعد أن قتل من لديه شرف ونخوة على يد النظام ثم من تبقى منهم على يد الفصائل الجهادية ، واستبعد من بقي عنده ذرة عقل ونزاهة ، وفرغت الساحة لهذا وذاك وضاع شعبنا بين عصفورية المعارضة ومسلخ النظام ، وهكذا أصبح خلاص سوريا محصورا فقط بيد خلاصة الجنون والإجرام الذين اعتصرتهم عبقرية المبعوث الدولي المعتوه هو أيضا ، الذين عليهم أن ينتجوا لنا دستورنا الجديد الذي يكرس حالتنا التي وصلنا إليها .


أن تكون سوريا فأنت في سجن احترازي في مصحة عقلية ، لذلك سوف تحتاج للجنة تنقيب وفريق بحث للعثور على مواطن صالح وعاقل يحترم نفسه ويمكن التعامل معه ، فعلا يتعذر عليك العثور على ذلك المواطن الصالح العاقل في أغلب صفوف الطبقة السياسية والفكرية والعسكرية والدينية التي هي قيادة المجتمع في طرفي الصراع الذي تحول لجنون واجرام متبادل ، المشكلة أن المجتمع الدولي يريد تكريس هذه الحال عبر التوفيق بين مجرمين مجانين فكيف سينجح ؟ وإذا نحج ماذا يتوقع أن تكون النتيجة ؟ ثم ماذا سيكون مصيرنا ومستقبلنا ...؟ أم أننا شعب فقد قدرته العقلية بعد أن فقد ما تبقى من وطن ، أو قبل ذلك بكثير ؟؟؟ كنا سنسأل الطبيب لكنه هو أيضا مجنون ؟


كاتب وسياسي سوري

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!