الوضع المظلم
السبت ١١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • تركيا والوقوع في الكمين الأمريكي – الروسي في شمال شرق سوريا

تركيا والوقوع في الكمين الأمريكي – الروسي في شمال شرق سوريا
جوان ديبو

في غضون أقل من شهر، شهدت مناطق شمال وشمال شرق سوريا أحداثاً جساماً قد تشكل الفصل الأخير أو ما قبل الأخير في المأساة السورية. في التاسع من أكتوبر شن الجيش التركي والفصائل السورية المتشددة الموالية لأنقرة الحرب ضد المناطق الكردية في شمال شرق سوريا. في السابع عشر من أكتوبر أبرمت الولايات المتحدة وتركيا اتفاقاً هشاً وغامضاً بشأن وقف إطلاق النار بين الجيش التركي وقوات سوريا الديمقراطية. في الثاني والعشرين من الشهر ذاته وقعت روسيا وتركيا اتفاقاً بخصوص وقف الحرب في تلك المنطقة الساخنة. بعد منح الرئيس الأمريكي الضوء الأخضر أو البرتقالي لتركيا باجتياح واحتلال مناطق جديدة في شمال وشمال شرق سوريا، باشرت القوات الأمريكية بالانسحاب الجزئي والنسبي الملحوظ من تلك المناطق باتجاه كردستان العراق، لكنها ما لبثت وأن عادت بزخم أكبر وأقوى من الأول لتعلن أن آبار النفط في ديرالزور والرميلان وباقي المناطق التي هي ضمن النفوذ الأمريكي في سوريا قد أصبحت من الخطوط الحمر بالنسبة لبقية اللاعبين وأن حمايتها قد أضحت من أولى أولايات واشنطن وأن ريعها سيذهب الى قسد.


الولايات المتحدة وروسيا وتركيا والنظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية جميعهم متواجدين في المنطقة ذاتها. الاتحاد الأوربي بدوره ومن خلال ألمانيا لم يخفي عن رغبته في إرسال قوة أوربية قوامها 45 ألف جندي إلى هذه المنطقة. واشنطن تسعى إلى إنشاء قواعد عسكرية جديدة في المناطق الكردية في كردستان سوريا. دوريات روسية – تركية مشتركة على الحدود السورية – التركية بين سرى كانيي (رأس العين) وديرك (المالكية). قوات النظام السوري تنتشر ايضاً على الحدود في تلك المناطق كما في كوباني. بمعنى آخر، الحدود السورية - التركية التي يبلغ طولها أكثر من 900 كم والمناطق التي تتبعها في العمق السوري يتقاسم السيطرة عليها وبأشكال وحصص متفاوتة كل من واشنطن وموسكو وأنقرة والنظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية التي تقلص نفوذها مؤخراً بعد أن اضطرت إلى الانسحاب من بعض تلك المناطق حتى عمق 32 كم نتيجة الحرب التركية الظالمة والاتفاقيات الموقعة بشأنها من قبل واشنطن وموسكو.


لكن السؤال الملحاح الذي يفرض نفسه هنا في خضم هذا التكالب الدولي والإقليمي على شمال وشمال شرق سوريا هو: ما الغاية الكامنة لدى واشنطن وموسكو من خلق هذا المشهد المعقد والمركب والعصي على الفهم والتحليل والتأويل حتى بالنسبة لمعظم المتابعين والمختصين بالشأن السوري؟ الهدف أو القاسم المشترك بين موسكو وواشنطن من وراء الإتيان بهذه الصورة السريالية هو تشجيع تركيا على المزيد من التورط في المستنقع السوري. المرة الأولى التي بلعت فيها أنقرة الطعم من واشنطن كانت في 19 ديسمبر من العام الماضي، عندما أوضح الرئيس الأمريكي في تغريدة له بأن واشنطن سوف تنسحب من سوريا بما في ذلك المناطق الكردية وانها ستوكل مهمة القضاء النهائي ضد داعش إلى تركيا التي ستهديها واشنطن كل هذه المناطق وفق تغريدة وتصريح ترامب.


المرة الثانية كانت خلال تلك المكالمة التي سبقت الحرب التركية الأخيرة ضد روجآفا والتي فهم أردوغان من فحواها بأن ترامب قد أعطاه الضوء الأخضر لغزو المناطق الكردية في سوريا، وهذا صحيح لدرجة كبيرة، بالإضافة الى أن أمريكا ستسحب قواتها عاجلاً وليس آجلاً من عموم سوريا. الأمر الذي أسال لعاب أنقرة للسيطرة على آبار النفط والغاز الكثيرة في تلك المناطق، على الأقل لتمويل مشروعها المزعوم بإنشاء "منطقة آمنة" في شمال وشمال شرق سوريا لإعادة توطين 3.6 مليون لاجئ سوري الذين يعيشون في تركيا على مدار سنوات الأزمة السورية. خاصة وأن الاتحاد الأوربي وكذلك دول الخليج العربي قد أوضحت بأنها لن تساهم نهائياً في تمويل المشروع التركي في إطار "المنطقة الآمنة" وذلك تعبيراً عن امتعاضها ضد العدوان التركي. لكن ترامب كعادته سرعان ما تنصل مما اعتبره وفهمه أردوغان وعداً امريكياً له، وتعهد ترامب هذه المرة بحماية آبار النفط والغاز التي يجب أن تذهب ريعها لقوات سوريا الديمقراطية حسب ما صرّح به الرئيس الأمريكي ووزير دفاعه.


مما فاقم الوضع تعقيداً وغموضاً وزاد من إرباك أنقرة في هذا المضمار، هو دخول الاتحاد الأوربي وبقوة على هذا الخط الملتهب، وذلك عندما اقترحت ألمانيا مؤخراً إرسال قوة أوربية مؤلفة من حوالي 45 ألف جندي إلى شمال وشمال شرق سوريا بهدف إنشاء منطقة آمنة تستطيع استقبال واستيعاب اللاجئين السوريين في تركيا، وبذلك ستتخلص أوربا من الابتزاز التركي لورقة اللاجئين السوريين التي لطالما لوحت بها أنقرة ضد بروكسل، خاصة وأن المقترح الأوربي غير الرسمي بعد قد لاقى ترحيباً واستحساناً مبدئياً من قبل موسكو.


بدورها لم تمانع روسيا الاجتياح والاحتلال التركي الجزئي لبعض المناطق في شمال وشمال شرق سوريا، والذي فُسر على أنه مقابل تخلي وتجاهل انقرة القادم عما سيجري في إدلب لاحقاً في إطار الصفقات والمقايضات حول المناطق السورية والتي باتت مألوفة بين الدولتين. لكن روسيا ومن خلال إشرافها وتوقيعها على اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية قد كبحت نسبياً وجزئياً جماح أنقرة في التمدد شمالاً وشرقاً وفي العمق السوري على عكس مما كان يتوخاه الرئيس التركي. على هذا الأساس يمكن القول بأن تركيا لم تحقق ربع مراميها التي طمحت إليها من خلال عدوانها الأخير ضد كردستان سوريا، وإن تراءى لها بأن نار مدفعيتها هي الأقوى ميدانياً.


من ناحية، فإن واشنطن قد منعتها من الاستيلاء على منابع النفط والغاز، وبالتالي لن تتمكن أنقرة من تمويل مشروعها القاضي بإعادة إسكان 3.6 مليون لاجئ سوري يعيشون في تركيا في "المنطقة الآمنة" التي تنوي إقامتها في المناطق التي احتلتها مؤخراً بين رأس العين وتل أبيض، وسيبقى مشروعها الهادف الى إحداث تغييرات ديمغرافية هائلة في المناطق الكردية في سوريا حبراً على ورق. ومن ناحية ثانية، فقد منعتها روسيا من التمدد شمالاً وشرقاً وفي العمق السوري، وبالتالي، اربكت كل من واشنطن وموسكو حسابات أنقرة العدوانية في سوريا، وذلك ليس محبة في الأكراد أو في بقية مكونات الشعب السوري وانما حفاظاً على مصالحها وسياساتها واستراتيجياتها وأجنداتها في سوريا والمنطقة. وكذلك حفاظاً على التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط ما بين تركيا والدول العربية الرئيسية وإيران وإسرائيل. أيضاً دخول الاتحاد الأوربي إلى المشهد زاد من خلط الأوراق وضبابية المشهد بالنسبة لأنقرة، خاصة وأن المقترح الأوربي الهادف الى الإشراف على "المنطقة الآمنة" هو الأقرب إلى الصواب والمصداقية والأكثر قابلية للتحقيق والتطبيق على ضوء جاهزية دول الاتحاد الأوربي لتمويل هكذا مشروع بهدف إعادة توطين اللاجئين السوريين في تركيا والمساهمة في الإسراع في تحقيق التسوية السياسية النهائية العادلة والمأمولة في سوريا.


يمكن القول بأن الرياح قد جرت وتجري بما لا تشتهي سفن السلطان العثماني الجديد في حربه الظالمة ضد الأكراد وبقية مكونات الشعب السوري في شمال وشمال شرقي سوريا. تركيا بلعت الطعم من واشنطن وموسكو معاً للتمرغ مزيداً في الوحل السوري وسترضخ عاجلاً أم آجلاً للشروط الأمريكية والروسية بخصوص التسوية النهائية في سوريا والانسحاب من جميع الأراضي السورية التي تحتلها. والسبب وراء هذا الاعتقاد هو أولاً: لأن تركيا دولة غير عظمى ولا تستطيع لعب دور الكبار في الأزمات الدولية والاقليمية. ثانياً: لأنه لم يشهد تاريخ العلاقات الدولية أية حادثة تنازلت فيها القوى العظمى لقوى إقليمية غير عظمى دون مقابل أو لقاء ثمن غير مجدي. ثالثاً: لأن نيات تركيا في سوريا هي عدوانية وتهدف إلى تكريس احتلالها الراهن. وأخيراً: لأن مشروعها في سوريا وعموم المنطقة هو تمكين جماعات الإسلام السياسي من خلال تنظيمات الأخوان المسلمين أو شبيهاتها من الاستيلاء على أنظمة الحكم وأخونة الدول والمجتمعات العربية وما سيتمخض عن ذلك من كوارث وويلات على شعوب ودول المنطقة، وهذا ما لا تستسيغه كل من واشنطن وموسكو وبروكسل وكذلك معظم شعوب ودول الشرق الاوسط.


كاتب سوري

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!