-
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان
لا يجب أن نعتقد أنّ بقاء الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان يجب أن يبقى إلى ما لا نهاية. عشرون عاماً تحت الرعاية والدعم الأمريكي المباشر كان أكثر من كافٍ لكي يتمكّن المجتمع من بناء مؤسساته الوطنية القادرة على الدفاع عن نفسها، بفرض أنه وقع ضحية الاحتلالات وجماعات التطرّف، وحطمته الحروب. لكن الذي حصل كان فعلاً مخيباً للآمال حيث لم ينمُ في تلك المجتمعات سوى مؤسسات تجمع الانتهازيين والأجراء والمنتفعين.
فقد نجح الاحتلال الأمريكي فقط في تجميع المرتزقة والمنتفعين حوله، بينما نجح المرتزقة فقط من المجتمع الأفغاني في الوصول للدولة ومؤسساتها، وهكذا انهار كل شيء بمجرد مباشرة القوات الأمريكية انسحابها، وسيطرت طالبان بسرعة عجيبة والتي يفترض أن تدميرها كان هدفاً أساسياً للاحتلال، وبقي الشعب في كلا الحالتين خارج الفعل السياسي ومحروماً من حقّه في تقرير مصيره.
هل طالبان من القوة بالقدر الذي يجعلها قادرة على البقاء 20 عاماً تحت الاحتلال؟ وما هي عناصر قوتها؟ وهذا يشمل كل الإسلام السياسي الذي يرقص منتشياً بالفرح، أم أنّ أمريكا تركت لها مساحة كافية للبقاء تحت الرماد منتظرة لحظة العودة، هذا السؤال يجيب عليه حقيقة أساسية أن طالبان ذاتها هي صنيعة المخابرات الأمريكية ذات يوم، عندما أريد استعمالها في مقاومة الاحتلال الروسي السوفييتي، أي أنها منظمات وظيفية تقوم بأدوار مرسومة لها، تتحرّك بأمر وتنام بأمر، وتبنى من حجارة التراث والعقيدة والمجتمع القائم، لكن بطريقة لا تخدم أهداف تلك العقيدة، بل أهداف صانعها ومشغلها.
إن توقيت الانسحاب الذي تأخر كثيراً رغم الإعلان عنه منذ عقد من الزمن اعتمد على نضوج الظروف التي تتطلّب عودة طالبان للسلطة، تلك السلطة التي لم يستطع الشعب الإمساك بها، ليس فقط بسبب هيمنة طالبان، ولا الأمريكان، بل بسبب انسحابه واستسلامه دوماً للحاكم الذي هو مستبدّ عادة، فغياب ثقافة الديموقراطية من التراث الأفغاني، وغياب مؤسسات المجتمع، وفساد الإنتلجنسيا كانا كافيين لبقاء السلطة بيد المنتفعين فقط، طيلة الاحتلال الأمريكي، وهكذا عندما غادر الاحتلال وجد الكثيرون من العملاء أن عليهم التعلّق بأذناب طائراتهم.
حدث أفغانستان يقول حقيقة واحدة هي عدم قدرة أي احتلال على تغيير المجتمع، فقط تجربة الشعب الذاتية هي من تغيره، لأنّ التغيير يجب أن ينبع من خبرة البشر ومعاناتهم لكي تتغير ثقافتهم، لقد بقيت طالبان قادرة على التحكم بثقافة المجتمع وقيادته من الأعماق، وعجزت القيم الحديثة رغم إغراءاتها عن خلق مؤمنين بها يدافعون عنها، بل بقيت مجرد متع ونزوات شيطانية يتم انتهازها مؤقتاً، بانتظار العودة لحضن الكبت والماضي.
أي تغيير لا يشارك فيه عامة الناس ولا يناضلون من أجله ويدفعون ثمنه سيكون شكلياً، وسرعان ما يزول مع زوال الظروف الخارجية التي أوجدته. لقد عاشت أفغانستان في فندق الديموقراطية الأمريكي، لكنها كانت مجرد ضيفة عليها أن تخرج منه إلى شوارع التعصب والاستبداد. فالفندق لا يغني عن البيت، ومن دون إصلاح حقيقي يشارك فيه البشر ويؤمنون به على مستوى الثقافة والوعي بالوطن والدولة والمؤسسات والديموقراطية وحقوق الإنسان، لا يمكن لأي جيش احتلال في العالم أن ينقل شعباً من التخلف للديموقراطية. فالديموقراطية لا تأتي على طائرات أف ٢٢ ولا ٣٥ ولا بصواريخ كروز، وكوماندوس البحرية، بل فقط في مشاركة الشعب في الحياة السياسية بدوافع تجبره على ذلك، أي باختصار إن طريق الديموقراطية والحضارة لا يمكن عبوره بركوب سيارات الاحتلال، بل لا بد من السير عليه بالأقدام العارية.
ليفانت - كمال اللبواني
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!