الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
اختلاط الوهم: السياسة والحرفة
جمال الشوفي
العقد الاجتماعي لم ينزل على جان جاك روسو بقفة من السماء، ولم يكتب ماكس فيبر العلم والسياسة بوصفهما حرفة بوحي نزل عليه من السماء.
العقد الاجتماعي لروسو كان نتاج حوارات نظرية وفكرية امتدّت زمناً، لم تلقَ صداها السياسي أوروبياً وقت كتابتها في منتصف القرن الثامن عشر، بل توصّلت الناس له عقب ثورة تقلبت فيها الفصول لما يزيد عن 50 عاماً حتى تمكّنت فرنسا إعلان الجمهورية والتأسيس للدولة الوطنية، دولة الحرية والحقوق والقانون. فيما كتب ماكس فيبر كتابه ذاك بعد ذاك التأسيس من الاستقرار على أرضية دولة الحداثة في صيغتها العصريّة، ولتعزيز تفوقها العصري، وليس فقط، بل لتحقيق المزيد من الميزات الإيجابية فيها. وهذا يعني تحقيق أو تحسين شروط المواطنة والحداثة والحياة الحرة الكريمة، وتحقيق المزيد من الفصل بين السلطات السياسية، أصل السيادات المتوازية: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفصلها تماماً عن بعض، بحيث تمارس السياسة والعلوم باحتراف، وتفصل بين هيمنة السياسة القائمة وبين الحالات التخصصيّة التي تثبت كفاءتها وتفوقها المجتمعي.

في كلا الحالتين لم يخلط فيبر ولا روسو بين الواقع وافتراضاته وهياماته وأحلامه، وأيضاً أشكال الاستثمار الانتهازية والغرضية فيه، فكلاهما لم يبحث عن منصب ولم يسعَ ليصبح وزيراً. فروسو انطلق من حوار عريض للأفكار السائدة حول سلطة الملك الإنكليزية التي أرست دستوراً مدنياً مع تحسينات في الجانب الحقوقي والقانوني، وفقاً لأفكار توماس هوبز. فيما وجد روسو أنّها لا تكافئ ولا تعادل أحقيّة الاختلاف العام بين المواطنين، والتي حررها بفكرة الشخص العمومي القابلة للتحقق والممارسة، حيث كشف عن النقص الفكري والسياسي الحاد في الإصلاحات الدستورية تلك متمثّلة بالحرية والتي لا تتيحها العملية السياسية البريطانية في زمنها. فيما فيبر كان يجادل في تحسين شروط العملية السياسية في آليات إدارة المجتمعات التي أنجرت ثورتها الوطنية سياسياً بشكل مهني واحترافي بعد أن حققت استقرارها وسيادتها الوطنية وحققت حرية المواطنين الذين يحميهم القانون وبضمانات دستورية. ما يعني وفق قواعد وبيانات ودراسات وتحاليل تفيد بضرورة الأخذ بكافة المعطيات والفعاليات الوطنية بكل مجالاتها الاقتصادية والعلمية والصناعية والتقنية... لإنتاج سياسة أكثر تقدّماً وأكثر حداثة وأكثر حقوقيّة ومدنيّة.

ثمّة هوّة بين الواقع والهدف يردمها العمل، هكذا عبر الفيلسوف العربي إلياس مرقص، إذ ثمّة عمل يجب القيام به بغية تحقيق الأهداف، وهذا العمل يفترض أولاً وقبل كل شيء تعيين الواقع كما هو واقع، وثانياً تحديد الهدف، وما بينهما تأتي الأدوات اللازمة للوصول إليه. وفي الفعل المجتمعي هذه الأدوات هي الفعل السياسي بلا شك أو مواربة، بلا خلط بين الأهداف والأحلام وبين الواقع المعاش. وهنا ليس بالضرورة أن تكون السياسة هي سياسة موجهة من السلطات، أو القائمين على ولاية الأمر الواقع، بل هي سياسة أو بالمعنى الأعم ممارسة الفعل Practices والتي تأخذ أشكالاً متعددة من الممارسة، أولها النقد، وثانيها الدراسات والتعيين والتحديد، وثالثها تحديد الطرق الفعالة، وقد تكون إحداها الثورات الشعبية التلقائية، العنيفة أو الإصلاحية حسب الفعل ورد الفعل، وقد تكون إحداها الحركات الإصلاحية الفكرية والاجتماعية المشروطة باستجابة السلطات لهذا الفعل، وذلك عندما يكون القائمون عليها احترافيين حسب فيبر، وقد تكون سياسات انتهازية نفعية مفادها البحث عن مكاسب فردية آنية وتسجيل نقاط الربح والخسارة لنزوات الذوات التي تفتح لهم السلطات أبواب الممارسات المقننة والتي تخدم أغراضها وفقط.

الخلط بين الواقع والهدف وأدوات تغييره ضرورة وممارسة فكرية وسياسية، أهم أدواتها المنهجية تغير طرق السياسة ذاتها وأدواتها أولاً، وعدم هيمنة الأحلام وإشباعها بجمل وصفية تعتمد على نكران أس التغيّر الأساسي، وليس فقط، بل جلد البشر الذين قاموا بعمل مغاير لسياسات السلطات الممنهجة وأردوا التغيير، ولنقل بشكل أكثر دقة أرادوا ردم الهوة بين الواقع والأهداف بالعموم، لا تحويل الأهداف والمآسي لجسور عبور لأهداف فردية محضة.

أحد أهم الإشكالات التي ظهرت في سياق الربيع العربي عامة، والسوري خاصة، هو ذلك الاختلاط بين الأفكار المستقبلية ومعطيات الواقع الراهنة، فمع أن قلة ممن أدركوا نظرياً ضرورة ردم الهوة من الواقع الاستبدادي المغلق سياسياً وتعبيد الطرق أمام الشعب وإمكاناته الإبداعية بكل مجالات الحياة العلمية والفنية والأدبية والإنسانية الحقوقية العامة والخاصة، وعملوا على تحديد المعطيات الواقعية وسبل تحرير إمكاناتها، وأهمها الالتصاق بهموم الناس عامة والتعبير عنها، ما كلفهم الغالي والنفيس من شتات وعذابات وآلام، إلا أن معضلة "الخلاط" الزمني ذاك أنه هيمن على معظم حوارات السوريين حينما خرجت للعلن، لدرجة وصلت لتزييف الواقع القائم وإظهاره على أنّ المشكلة في الأحلام، وحقيقة أستغرب أن تكون المشكلة في الأحلام، فكل حلم للبشر حق كونه جنيناً واقعاً كما أراده الحلاج صوفياً قبل قرون، وأبداً هو ليس الواقع.

حوار الفكر المفتوح كما بدأه مفكرو الحداثة وآباؤها الأوائل، هوبز ولوك وروسو، لم يفرض نفسه بوهم تحققه، إلا عبر انعقاد الإرادة العامة The general will كالفعل السياسي والبحث عن التغيير في معطيات الواقع أولاً، وهذا يعني تماماً، البحث عن التغيير في مساحات العمل السياسي للسلطات القائمة، وتحويلها من سلطات تحارب السياسة والفعل المجتمعي، لا بل تحتكره لنفسها، وتقدم مناصبها لمن يخدمها ويخدم أهدافها تلك، وتسجن وتنفي وتقتل من يخالفها عليه. وهنا يبدأ الاختلاط الذي لا نهاية له في المعضلة السورية، فواقع الحال شيء وتحقيق أحلام الناس شيء آخر، والاختلاط القائم بين الضالعين في نقاش السياسات المرحلية والآنية والمستقبلية السورية شيء آخر، والأهم من هذا طرق الوصول إليه. إذ يمكن الوصول إليه عبر الإصلاحات الدستورية وشرطه الأساس قبول السلطة وأجهزتها بهذا وتنفيذه فعلياً وواقعياً وهذا ما لم يمارس لليوم، أو عبر التغيير السياسي الممكن وفق شروط ومعايير الواقع المنهار سورياً، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، وهذا مرهون لا بطرف السلطة فقط، بل برعاتها الدوليين من جهة، في معادلة الكوكبة العالمية للسيطرة والنفوذ الجيوبوليتيكي، وعلى أطراف المعارضة السورية والتي عليها أن تفرز بحنكة ومهارة بين الأحلام والواقع ومعادلاته؛ ويمكن أن يحدث التغير بفعل التغير الجذري عقب ثورة سلمية أو عسكرية وهذا ما لم تتحقق شروطه الواقعية لا سلمياً ولا عسكرياً.

قُدّمت للسوريين وجبات سياسية متعددة، منها جنيف-1/ 2012 والتغيير الكلي بسلطة كاملة الصلاحيات والتي ما زال الكثيرون يحلمون بتحقيقها، وتبعها بعدها بسنوات وجبة التغيير السياسي بحكومة انتقالية عبر 2254/ 2015 تشمل المعارضة والسلطة والمجتمع المدني، وهذه شكلت حلبة تنافس شديد وخلاف واختلاط واسع بين أوساط المعارضات فيما بينها ومع المجتمع المدني، ووجبة أخرى سوّقتها روسيا عبر لقاءات سوتشي عام 2017 كوجبة سحرية للحلّ عندما يلتقي بعض السوريين ويعلنون الحلّ عبر تغير الدستور وقول ما يشاؤون في مؤتمرهم، ولليوم لم تزل مؤشرات الاختلاط بين تحديد الواقع السوري وبين أهداف وأحلام السوريين معضلة استعصى حلها رغم زحمة اللقاءات و"الجنيفات والأستانات والسوتشيهات" والكثير من الدراسات والتحليلات التي تشير إلى أس المشكلة والحل في لزوم التغيير السياسي أولاً. وليته ينزل بوحي ما أو بقفة من السماء ونعمل بمهننا، وحسب واحدها السياسة، ولكن ما زال الواقع المأساوي بواد والأحلام بوادٍ، ولم يزل البعض يعتقد جازماً أنّه صاحب وصفة سحرية بالحل، قاصياً كل السنوات العشر، وكل ممارسات السياسة العنفية ذاتها، لا بل ويمارس عنف ذاتويته.. فما دام هذا الاختلاط قائماً فلا روسو المفكر ولا فيبر السياسي يمكن أن يجد مكاناً له في حلّة السوريين هذه، وستبقى السياسة لعنة بعدما كانت عملاً احترافياً وتعاقداً اجتماعياً.

جمال الشوفي
ليفانت - جمال الشوفي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!