الوضع المظلم
السبت ٠٩ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
إعادة الاعتبار للقوة الذكية في الخارجية الأميركية
ماهر إسماعيل

تبرر إدارة الرئيس الأمريكي بايدن في البيت الأبيض انسحابها من أفغانستان وتدافع عنه، على الرغم من اعتبار العديد من السياسيين الأمريكيين أن هذا الانسحاب هو هزيمة عسكرية وسياسية لمبدأ الاحتلال والتدخل الأمريكي المباشر عبر وجود الجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق وسوريا من أجل الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الأمريكية. إعادة 


إن مبدأ الاحتلال والتدخل المباشر الذي أقدمت عليه الإدارات الأمريكية لبعض البلدان جاء بعد أحداث (11 أيلول، 2001) التي انهار بها برجي التجارة العالميين في نيويورك، وترافق ذلك مع وجود القاعدة في أفغانستان، وقيادتها المتعارف عليها عالمياً "أسامة بن لادن"، وهذا ما جعل من سياسة الاحتلال والتدخل المباشر للحفاظ على المصالح الأمريكية الاستراتيجية موجهاً للسياسية الخارجية الأمريكية.


وكان علماء السياسة الأمريكيين قد صاغوا مفهوم القوة الناعمة الأمريكية، وحالوا ترويجه في مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين. وجرى التركيز على هذا المفهوم والإلحاح عليه في محاولة استغلال حالة غياب أي أيديولوجية منافسة في تلك اللحظة الاستثنائية من أجل منح النموذج السياسي والاقتصادي والقيمي الغربي، قوة لم تتوافر له في أي مرحلة من مراحل الحرب الباردة، ومحاولة ترويج أمريكية لمفهوم القوة الناعمة بعد محاولة استباقية لمحاولة ملء مساحة الفراغ الأيديولوجي التي نتجت عن انهيار الاتحاد السوفييتي والسيطرة عليه قبل ظهور أي مشاريع منافسة.


وكشف عقد التسعينيات من القرن العشرين هشاشة القوة الناعمة الأمريكية، ليس بسبب عدم صلاحية النموذج السياسي، والاقتصادي، والقيمي الأمريكي، بحسب ما أكده الفيلسوف ليفي شتراوس، ولكن بسبب الطبيعة الازدواجية لتعاطي تيار المحافظين الجديد الذي سيطر على صنع السياسية الأمريكية تجاه العالم منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، حيث قدم هؤلاء أولوية تحقيق المصلحة الأمريكية، حتى من خلال أدوات تتعارض مع القيم المؤسسة للنموذج الأمريكي للحفاظ على تلك القيم ذاتها المؤسسة لنظام دولي جديد.


وجاء انقلاب الرئيس الديمقراطي بيل كلنتون قبيل انتهاء ولايته الأولى على النهج التعددي الذي صعد إلى موقع الرئاسة مبشراً به في إدارة القيادة الأمريكية للعالم، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، الدليل الأبرز على أن السياسة الأمريكية لا تعنى بنشر قيم نموذجها دولي بقدر ما تعنى بتحقيق مصالح في الدرجة الأولى، مهما كانت الأدوات ومهما يكن عدم اتساقها مع قيم النموذج الأمريكي ذاته، وخير دليل على هذا النهج أن إدارة الرئيس كلينتون اتبعت النهج الأحادي في حال تعارض أي التزام بالنهج التعددي مع المصلحة الأمريكية، ورفض إخضاع القوات المسلحة الأمريكية لأي قيادة أممية في حال المشاركة بأي عمليات تقودها الأمم المتحدة، ورفض اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية، واتخاذ قرار منفرد بالتدخل في كوسوفو بالعام 1999 خارج إطار قرارات الأمم المتحدة.


يذكر الباحث "عمرو عبد العاطي" في مجلة السياسة الدولية الصادرة في القاهرة بالعدد (212، في نيسان/ أبريل 2018)، أن القوة الذكية هي الدمج بين "القوة الصلبة المتمثلة في القوتين العسكرية والاقتصادية، والقوة الناعمة التي تتمثل في استثمار مكانة الدولة وجاذبيتها عالمياً في التأثير، لأنهما غير قادرتين بمفردها على صون استمرار النظام الدولي والدفاع عن المصالح والأمن القومي الأمريكي في أنحاء العالم كافة، ومواجهة التحديات العالمية التي لم تعد ذات طبيعة عسكرية، وهو الأمر الذي يتطلب تطوير القدرات والمؤسسات غير العسكرية.


في إطار البحث عن السبل المثلى لإدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة من أجل تحقيق المصلحة والأمن القومي الأمريكي واستعادة المكانة الدولية بعد التراجع الملحوظ الذي لحق بها خلال السنوات الثمانية لإدارتي الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (2001-2009) لتعدد إخفاقاتها في العديد من مناطق النزاع والتوتر التي لعبت فيها الولايات المتحدة دوراً مباشراً أو غير مباشر، ويأتي في مقدمة الإخفاقات في تلك السنوات، التأزّم الأمريكي في العراق بعد حرب قيّمها كثير من الأمريكيين أنها "غير ضرورية في العام2003"، حيث تزايدت الخسائر الأمريكية المالية والبشرية، وهذا ما أظهر أن القوة العسكرية ليست الأداة المثلى لنجاح السياسة الخارجية الأمريكية، حيث إن هناك حدوداً لما يمكن أن تنجزه القوة الصلبة كأداة منفردة في تحقيق المصلحة القومية الأمريكية، مثل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وتدعيم مؤسسات المجتمع المدني.


إن المعارك التي خاضتها الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة وحركة طالبان عقب هجمات الحادي عشر من (أيلول/ سبتمبر) الإرهابي في العام 2001، أفضل حالاً من العراق، حيث تكبدت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش خسائر بشرية ومالية، تفاوتت التقديرات الأمريكية بشأنها، فالأرقام التي نشرها موقع "عربي، trt" عن الحكومة الأمريكية، في وقت سابق، وما صرح به مسؤولون في البنتاغون، أن كلفة الحرب بلغت "بين عامي 2010، 2012" ما يقارب 100 مليار دولار سنوياً. ثم انخفضت بعد ذلك قليلاً سنة 2018، لتبلغ نحو 45 مليار دولار، على إثر قرار إبعاد الجيش الأمريكي قليلاً من العمليات الهجومية، وتكليفه بتدريب القوات الأفغانية.


وبمناقشة قرار الانسحاب من أفغانستان، صرحت وزارة الدفاع الأمريكية أن تكلفة الحرب منذ (تشرين/ أكتوبر الأول العام 2001)، إلى (أيلول/ سبتمبر 2019)، قد قدرت بنحو 778 مليار دولار)، فيما أنفقت وزارة الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية نحو (44 مليار دولار) لمشاريع إعادة الأعمار، ليبلغ بذلك إجمالي التكلفة (822 مليار دولار).


وكشف المشروع البحثي المشترك بين جامعتي بروان وبوسطن الأمريكيتين "تكلفة الحرب"، حيث أنفقت الولايات المتحدة بحلول العام 2020 نحو (988 مليار دولار)، بما في ذلك التكلفة المالية التي أنفقت في باكستان، التي استخدمتها الولايات المتحدة قاعدة عسكرية للعمليات المتعلقة بالحرب في أفغانستان.


ولتغطية تكاليف الحرب الباهظة، اقترضت الولايات المتحدة الأمريكية مبالغ مالية ضخمة قدرت بنحو (تريليون دولار)، يرجح أن تصل قيمة فوائدها في العام 2050 إلى نحو (6,5 تريليون دولار)، لترهق كاهل الأجيال القادمة بتركة باهظة لحرب طويلة رغم انتهائها تستمر أعبائها.


وتسببت هذه الحرب، كما أشارت الجهات الرسمية الأمريكية، بقتل نحو 2448 جندياً أمريكياً حتى ( نيسان/ أبريل) 2021، إضافة إلى مقتل (3846) من المتعاقدين الأمريكيين، فيما قدر عدد الإصابات بنحو (20660) جندياً أمريكياً في أثناء القتال. ورغم هذه التكاليف الباهظة التي أثقلت كاهل دافعي الضرائب الأمريكيين، لم تتمكن الإدارات الأمريكية من تحقيق أهدافها المتمثلة في نشر الديمقراطية والقضاء على التنظيمات الإرهابية، حيث زاد عددها بالمقارنة بما كانت عليه قبل الاحتلال لأفغانستان والعراق، فضلاً عن عدم وجود سياسات أمريكية للتعامل مع صعود قوي جديدة في النظام العالمي، لا سيما الصين، التي تعمل على التطور المستمر لمبدأ "الصعود السلمي للصين"، ليصبح أكثر تركيزاً على الحفاظ على التفوق العسكري، والانتشار دولياً من خلال سياسة متعددة الأوجه، تقوم على مجموعة متوازنة ومتكاملة من الأدوات لتحقيق أهدافها السياسية، بالإضافة إلى تطوير أهدافها الوطنية، وكذلك روسيا التي تستعيد قوتها بعد فترة من التراجع، وسعي القوانين الصينية والروسية إلى إحداث تعديلات في النظام الدولي بما يخدم مصالحهما ويهدد استمرار الهيمنة الأمريكية عليه.


إن ذلك يستدعي تحولاً في السياسية الخارجية الأمريكية في زمن يصعب التعامل مع القوى الصاعدة والتحديات الدولية المتزايدة بالطائرات والبوارج والأسلحة الذكية الفتاكة، ويصعب الاعتماد على المحدد العسكري فقط في مجابهة الإرهاب، وبناء الأمم، فضلاً عن صعوبة حماية الأمن والمصالح القومية، في حال تعرضها لتهديد وشيك بالقوة الناعمة.


ويأتي ذلك في كل التراجع الأمريكي، على المستويين الداخلي والخارجي، بهذه الظروف قدمت سوزان نوسل مصطلح "القوة الذكية" لأول مرة في العام 2004, لتوضح أهمية اعتماد الولايات المتحدة على مختلف أوجه القوة الأمريكية، بعد أن أكثر تيار المحافظين الجدد خلال إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الأولى، من الاعتماد على القوة العسكرية كأداة رئيسية للتعامل مع الأزمات الدولية وإدارة الحكم.


ولعبت إدارة الرئيس الديمقراطي، بارك أوباما، دوراً كبيراً في تعزيز مفهوم "القوة الذكية" ليكون أداة واضحة في دمج جميع جوانب القوة الأمريكية وتحسين القدرة المدنية.


كما قال في خطاب ألقاه في مركز "ودورو ويلسن (في آب/ أغسطس) من العام 2007، وأوضح أنّه لن يتردد في استخدام قوة الدبلوماسية الأمريكية بعد الإخفاقات المتتالية لعسكرة السياسية الخارجية خلال حكم جورج دبليو بوش. وخلال كلمة نائب الرئيس بايدن في مؤتمر ميونيخ السنوي للأمن في العام 2009، ركز على إعادة إحياء التعاون والشركات مع الدول الأخرى بقدر المستطاع والانخراط في المؤسسات الدولية التي يرى أنّها لن تقلل من قوة الولايات المتحدة. ويأتي سحب الولايات المتحدة الأمريكية في الأول من (أيار/ مايو) 2021، قواتها من أفغانستان تطبيقاً لاتفاق (29 شباط/ فبراير) 2020، المعقود بين إدارة ترامب المحافظة وحركة طالبان في العاصمة القطرية الدوحة، على أن يكتمل هذا الانسحاب في (11 أيلول/ سبتمبر) المقبل.


لكن إدارة الرئيس بايدن سرعت من عملية السحب في (شهر آب/ أغسطس) الجاري إذ لا يمكن فصل مركزية الانسحاب عن نزعة مجابهة الصين في المواجهة التي ستحدد معالم القرن الحادي والعشرين.


بهذا الانسحاب تكون الإدارة الديمقراطية برئاسة بايدن قد عادت لاستخدام مفهوم القوة الذكية في السياسة الخارجية الأمريكية في محاولة لتقديمه عن القوة العسكرية المباشرة.


ليفانت - ماهر إسماعيل ليفانت 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!