-
علاقة واشنطن بطالبان بين المعلن والضمني
تعجّب الجميع من سقوط أفغانستان سريعاً بأيدي طالبان واسترجاع أغلب المدن دون قتال أو حتّى إطلاق رصاصة واحدة رغم أن تعداد الجيش الأفغاني 300 ألف جندي، مسلّحين بأحدث الأسلحة والعتاد والتكنولوجيا، بينما عدد مقاتلي طالبان لا يتجاوز 70 ألفاً، بما معهم من أسلحة تقليدية.
لا داعي للاستغراب، فالسبب وراء هزيمة الجيش الأفغاني تعود لكونه جيشاً مرتزقاً، همّه الوحيد المال لا الوطن، إضافة إلى كونه لا يمتلك عقيدة يُحارب من أجلها، وأعطيكم أمثلة، قديماً قضى المسلمون على بلاد فارس فاضمحل الفرس (عبدة النار) نهائياً، لأنّ عبادة النار ليست عقيدة، في مقابل أنّ الحروب بين المسلمين والروم امتدّت من عهد محمد -صلى الله عليه وسلم- حتّى عصر الدولة العثمانية، أي قرابة 800 عام، قبل أن يتشكلوا مجدداً في ثوب البلدان الأوروبية بالصيغة التي نعرفها اليوم (الدول الأوروبية المسيحية)، لأنّ الروم لهم عقيدة مسيحية يدافعون عنها.
أيضا ساهمت العديد من العوامل الأخرى في إخراج أفغانستان من ثوب البطل الأسطوري الذّي لا يُقهر، كمعاقل الجبال والتضاريس الوعرة والمناخ القاسي وتمرّس رجال القبائل الأفغانية، وخاصّة الذين ينحدرون من عرقية "البشتون"، وخبرتهم الطويلة في الحروب.
والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوّة، ما الذّي تغّير بين الأمس واليوم حتّى تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان وتترك النظام يتهاوى بسرعة قياسية؟
الأمر مُلتبس مع وجود عشرات الأسئلة العاجلة والملحّة التّي تتطلب أجوبة سريعة لفهم المشهد الأفغاني بعيداً عن الانحياز والاستقطاب، ولعلّ الجغرافيا وحدها من تملك قدرة الإجابة على كثير من هذه الأسئلة في هذا الوقت المبكر من الأزمة.
الجغرافيا هي التي تستطيع أن توضح لنا سبب الاهتمام الدولي الكبير بما يجري في واحدة من أكثر دول العالم فقراً وهي من يمكن أن تشرح لنا مواقف الدول الإقليمية والقوى الكبرى مما يجري هناك، وهي قادرة على أن تفسر لنا سبب انتصار طالبان على الولايات المتحدة ولماذا انسحبت واشنطن في هذا الوقت بالذات ولماذا جاءت أصلا عام 2001.
ببساطة المسألة لا تتعلق بأفغانستان بل بموقع أفغانستان. أفغانستان دولة ذات موقع جيواستراتيجي، حيث تتوسط قارة آسيا التي تضم العدد الأكبر من المسلمين، وبالتالي فهي تتوسط منطقة فيها الكثير من المجموعات المتطرفة والقادرة على أن تفرخ مجموعات أخرى متطرفة، أفغانستان جارة للصين وإيران وباكستان وتركمنستان وطاجيكستان وأوزباكستان مناطق النفوذ الروسي.
ومن يملك ورقة أفغانستان يكون في المكان المناسب لمراقبة وقطع الطريق على طموحات الدول الكبرى التي يمكن أن تنافس الولايات المتحدة على غرار إيران وروسيا والصين والهند وباكستان ويوقف نفوذهم ومشاريعهم التوسعية في المنطقة، ولكن بسبب كثرة النفقات وحجم الاستنزاف الكبير إضافة إلى خسائر كورونا، اختارت الولايات المتحدة الانسحاب من أفغانستان ضمن خطة لخلق صراع إقليمي أو عالمي تكون الولايات المتحدة غير منفقة فيه مادياً ولا عسكرياً.
تخلّت أمريكا عن أفغانستان وتركتها تسقط في يد طالبان متعمدة، فالأمور قد رُتّب لها في مؤتمر الدوحة وأُعدّ لها أجندة جديدة، بحيث تسمح أمريكا لطالبان بإقامة إمارة إسلامية في كابول، مقابل استعمال الحركة في الخطط الأمريكية القادمة، وربما لا تعلم طالبان بمسألة إعادة تدويرها واستعمالها كورقة تهديد لأعداء واشنطن، وكمساحة لزعزعة الاستقرار في المنطقة من خلال العمل على وقف أو على الأقل تعطيل مشروع طريق الحرير الصيني الذي سيمر بأفغانستان، وإثارة مسألة إبادة مسلمي الإيغور من جديد، ومحاولة خلخلة العلاقات الباكستانية الصينية، وكبح جماح الدب الروسي ونفوذه المتعاظم في القوقاز وباقي أقاليم العالم من خلال إيجاد خط للتواصل بين حركة طالبان والجماعات الإسلامية المسلحة في طاجيكستان وأوزباكستان وقرغيزيا المتوافقة مع نهجها، مع العمل على تقويض النظام في جورجيا، ومحاولة إرباك الاستقرار في إيران من خلال إقامة إمارة سنية على حدودها. وستكون جورجيا وإيران وبيشاور الباكستانية وأقاليم الصين الغربية ذات الجماعات الاثنية المسلمة محطّ أنظار وأهداف للتوجهات الطالبانية الجديدة بالاتفاق مع الإدارة الأمريكية.
وهي في نفس الوقت رسالة تهديد لحلفاء أمريكا قبل أعدائها، وذلك من خلال حثهم على المزيد من التعاون مع واشنطن للحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة، فوجود طالبان يعني استمرار وجود الدور الأمريكي الفاعل والمهيمن على الساحة العالمية وبقائها كرئيس للنظام العالمي.
ستطلق الولايات المتحدة العنان لإيران وتركيا وتغض الطرف عنهما وقتياً، إذ لا بد لهما من لعب أدوار جديدة أكثر قوة ونفوذاً في المنطقة، فتعدّد القوى وتداخل النفوذ يؤدي في النهاية إلى الصراع والصدام بينها، وهذا بالضبط ما تريده أمريكا لكي تحافظ على دورها وتقدم نفسها كحافظة للسلام والحامية للتوازن. وحتى ما نراه من تحالف بين روسيا والصين وإيران من جهة، وتحالف أمريكا وتركيا وأوروبا، من جهة أخرى، إنما هو فقط تحالف ضد عدو مشترك، وتحالف مراقبة عملاً بمبدأ "أتحالف معك لأراقبك وأراقب تحركاتك".
إنّ التاريخ الأمريكي ونفوذه الكبير مبني على خلق الحروب ونشر الفوضى وتغذية الصراعات وتقسيم البلدان وتفكيكها إلى أعراق وطوائف ومذاهب حتى تسهل السيطرة عليها وإبقائها في بيت الطاعة، مثلا واشنطن لا تريد القضاء على روسيا وإنما إضعافها لتتحكم في أوروبا، ولا تريد القضاء على الصين لتتحكم في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية والفلبين وسنغافورة، ولا تريد القضاء على إيران لتبتز دول الخليج وتأخذ أموالها ونفطها، وانظروا إلى ملف باكستان والهند وإلى تايوان وبحر الصين والقرم وحتى النيل، أينما وُجد صراع وُجدت أمريكا، والصراع وحده من يضمن بقاء أمريكا كقوة عالمية إمبراطورية. ولسان حالها يقول "أنا قوة في إقليمي (قارة أمريكا والمحيط الأطلسي)، ولن أسمح لأي دولة مهما كانت أن تكون قوة إقليمية في إقليمها (لا في أوروبا ولا في آسيا أو في أفريقيا).
ربما قد يتعجب البعض من كلامي خصوصاً فيما يتعلق بازدواجية المواقف ولعبة التوازنات والتغيرات العالمية، ولكن لكي تفهم سياسة أمريكا لا بد أن تتقن أيها الباحث استراتيجية البرادوكس، أي التفكير المفارقاتي، والذي يعني أن تفكر عكس التفكير المنطقي وأن تتخلى عن الثابت في السياسة، كما يجب أن تعلم أن المنظمات المتطرفة تخدم مصلحة واشنطن كثيراً، وهي أصلاً لم تتدخل في أفغانستان للقضاء على طالبان بل للسيطرة والتحكم فيها وتوجيهها خدمة لمصالحها، عملاً بشعارها الذي ترفعه دائماً "ليس لنا أعداء دائمون وليس لنا أصدقاء دائمون ولكن لنا مصالح دائمة".
أمريكا مستعدة لأن تتحالف مع الشيطان إن لزم الأمر كي تحافظ على موقعها ومصالحها، وهي بالتأكيد لن تضع بيضها في سلة واحدة ولن تراهن على طرف واحد داخل أي دولة، لأنها ببساطة لا تؤمن بالصداقة بقدر ما تؤمن بالمصالح. ولو قرأت التاريخ جيداً لاكتشفت سلسلة كبيرة من الغدر الأمريكي بالحلفاء والأصدقاء، وسقوط عدد كبير من الحكام والزعماء والقادة الذين خدموا المصالح الأمريكية طيلة عقود وحاولوا الاستقواء بها لحمايتهم، وكيف غدرت بهم وتخلت عنهم وحولتهم من ملائكة إلى شياطين في نظر الرأي العام العالمي، أذكر منهم الباكستاني برويز مشرف، والرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس، والدكتاتور البنمي مانويل نورييغا، وإدوارد شيفردنادزه رئيس جورجيا، وسوهارتو رئيس أندونيسيا، وبينوشيه ديكتاتور شيلي، وباتيستا دكتاتور كوبا، وموبوتو توريس رئيس الكونغو، وجان برتران أريستيد رئيس هايتي.
تجيد الولايات المتحدة اللعب على المتناقضات واستغلال جميع العوامل لصالحها من أيام الحرب العالمية الأولى والثانية، حين عرفت كيف تخرج فائزة منهما دون إراقة أي دم جندي أمريكي مستفيدة من سياسة الأحلاف الذين طوعتهم لخدمتها، في كل قطر من أقطار العالم، لتتمكن بعد ذلك من التحكم في النظام العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
ولكن اليوم أصبح التفوق الأمريكي نفسياً، وسوف تسقط هذه القوة النفسية في أي حرب تخوضها ضد روسيا أو الصين بسبب انتشار القوة والتطور التكنولوجي والعسكري والنووي، وأمريكا تعلم ذلك جيداً، لذلك تتجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع أي منهما والإبقاء على سلاح العقوبات الاقتصادية مع إثارة الحروب بين هذه القوى لتقدم نفسها الحامي الوحيد للسلم والأمن الدوليين.
وفي عصر كورونا لم تعد الولايات المتحدة قادرة على تمويل طموحاتها الإمبراطورية، فلم تعد قادرة على البقاء في أفغانستان ولم تعد قادرة على البقاء في العراق والصومال والسعودية، ولم تعد قادرة على البقاء في كثير من أماكن النزاع، التي كان الوجود الأمريكي يحسمها لصالح الأمريكي، ووفقاً للمصالح الأمريكية فقط، والآن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يمثل خبراً سعيداً للمواطن الأمريكي لأن هذه الأموال التي يتم إنفاقها خارجياً سوف تُستثمر في الداخل الأمريكي (يعني مستشفيات أكثر/ مدارس أكثر/ طرق أكثر/ ومستوى رفاهية أعلى) ولكن هذا يعني أيضاً أن الولايات المتحدة لن تبقى إمبراطورية وسوف تتراجع من دولة عظمى إلى دولة غربية مهمة تماماً، كما حدث مع المملكة المتحدة التي كانت دولة عظمى حين كانت أساطيلها وجيوشها منتشرة في كل مكان، وعندما عجزت عن تمويل هذا الوجود الإمبراطوري وانكفأت على حدودها تحولت من بريطانيا العظمى إلى مجرد دولة أوروبية مهمة فقط، ولم تعد تملك من الوضع الإمبراطوري إلا الاسم فقط.
صفوة القول إن الحرب في أفغانستان لم تنته بسقوط كابول في يد طالبان بل ستبدأ الآن بين طالبان والقوى المعارضة لها والمتكونة من رجال القبائل وفلول الجيش الهارب الموالي لأحمد شاه مسعود والمحتشدة في بنجشير في الشمال الأفغاني، مقرّ المعارضة التاريخية لحركة طالبان منذ أيام الغزو السوفياتي والأمريكي، من جهة، وستعمل واشنطن على جر القوى الكبرى، على غرار الصين وإيران والهند وروسيا التي تدعم جماعات إسلامية مسلحة (أوزباكية وطاجاكية وقرغيزية) مناوئة لطالبان، إلى الوحل الأفغاني، بينما هي تبقى لمراقبة ما ستؤول إليه الأحداث هناك، وكأن قدر أفغانستان البقاء في دوامة حروب لا تنتهي.
ليفانت - ماهر لطيف
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!