الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • الصيرورة التاريخية لثورات الربيع العربي من جيل الهزيمة إلى جيل العزيمة

الصيرورة التاريخية لثورات الربيع العربي من جيل الهزيمة إلى جيل العزيمة
محمد الشوا

محمد الشوا - كاتب سوري


بعد توقيع آخر اتفاقية للهدنة بين الدول العربية وإسرائيل في نيسان/أبريل 1949، قال بن غوريون في خطاب ألقاه أمام ضباط الهاغاناه، التي تحولت إلى جيش الدفاع الإسرائيلي: ”إن ما تحقق لنا هو نصر تاريخي عظيم للشعب اليهودي كله، كان أكبر مما تصورناه وتوقعناه. ولكن إذا كنتم تعتقدون أن هذا النصر قد تحقق بفضل عبقريتكم وذكائكم فإنكم على خطأ كبير إني أحذركم من مخادعة أنفسكم.

لقد تم لنا ذلك لأن أعدائنا يعيشون حالة مزرية من التفسخ والفساد والانحلال" لقد لخّص بن غوريون البلاد العربية بإحكام. هنا ولدت الهزيمة ومن هنا تبدأ عملية تصفية الهزيمة.




إذن من خلال هذا النص المهم يتبين لنا بأن الهزائم التي منيت بها الأنظمة العربية وجيوشها ومجتمعاتها

ما هي إلا نتيجة طبيعة لجملة من الهزائم، على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإنساني والأخلاقي والثقافي، لم يكن المهزوم طبقة بل مجتمعاً بأكمله، لاشك أن الطبقة السياسية العربية والنخب العربية بعامة هما المسؤولتان المباشرتان عن الهزيمة، إلا أن المجتمع العربي، بكل بناه المجتمعية هو أيضا مسؤول ومهزوم. فمنذ ما يزيد على نصف قرن من الزمن العربي المعاصر وتحديداً بعد ما سمي بحرب الأيام الستة أو نكسة حزيران/يونيو 1967، تم تصنيع الهزيمة وثقافتها على أيدي أزلام السلطة في الدول العربية ونخبها المزيّفة التي كرّست كل إمكاناتها الخبيثة وأساليبها المنافقة لتبرير الهزيمة وتلميع وجه الأنظمة القومجية القبيح، فلم تتحدث عن أسبابها المجتمعية الأيديولوجية والسياسية، ولم تشر من قريب أو بعيد عن التخلف أو التأخر بوصفه حاضنة الهزيمة أو فاعلها، ولكنها اكتفت بإدانة الصهيونية والقوى الغربية الداعمة لها، والأنكى من هذا بل والأكثر استخفافاً واستغفالاً لعقول الجماهير العربية هو ما ادعته هذه النخب اللاوطنية، أن العدوان الإسرائيلي قد فشل لأنه عجز عن إسقاط ”الأنظمة التقدمية“ متجاهلة أن إسرائيل احتلت من الأرض أضعاف مساحتها التي سيطرت عليها في حرب عام ١٩٤٨.




منطق القبول بالهزيمة والعيش بمعاييرها هو الذي يصنع ثقافة الخيانة الظاهرية والمستترة، من هنا نشأ جيل مابعد النكسة، جيلاً لا يؤمن بذاته وقدراته فاقد الثقة بنفسه يحاول الفرار من كل مسؤولياته الوطنية بمنطق الخلاص الفردي حتى وأن كان على حساب مجتمعه وأمته. بل خرج إلى الشوارع يطالب المهزوم بعدم التنحي عن منصبه ويهتف بحياة الزعيم الملهم والقائد التاريخي في اللحظة التي كان يجب فيها أن يطالب بمحاكمته واعدامه هو ورجال نظامه، هذا الموقف الذي اتخذه الشعب بعد الهزيمة يعبر عن نفسية العبيد وطبيعة القطيع، وهو ذات الموقف الذي أثار دهشة واستغراب ( ضابط الاستخبارات الأمريكي ) حينها مايلز كوبلاند حيث قال في مذكراته: ” كانت المخابرات الأمريكية تراقب بقلق ما ستؤول إليه الأمور في مصر بعد الهزيمة المذلة في 5 يونيو ١٩٦٧، هل سيطالب الشعب بمحاكمة الرئيس وإعدامه هو ورجال نظامه، أم سيحدث انقلاب عسكري من داخل الجيش أم ستحدث ثورة شعبية، وكانت كثير من السيناريوهات مطروحة وقتها. وإذا بنا نفاجأ بأن الرئيس المصري ناصر يخرج على الناس بخطاب عاطفي يعلن فيه تنحيه عن الحكم وتحمله لجميع نتائج الهزيمة، واشتدت دهشتنا أكثر عندما رأينا الشعب المصري يخرج بالآلاف ليرسل للرئيس المصري بأنهم متمسكون به ويرفضون خطاب التنحي، عند ذلك تأكدنا أن الذين يعيشون على أرض مصر لا يجب أن نحسب لهم الحسابات كشعب، بل كمجموعة من « فاقدي العقل» يمكن ببساطة التعامل معهم من خلال عملائنا "إن المجتمعات التي لا تمنع ولا تحاسب زعاماتها من أن تخون فهي مجتمعات مهزومة بالقوة".


مستلبة الإرادة ممسوخة الآدمية تفعل ما يوحى إليها في مجتمع متدني الفعالية، يعبد سادته وكبراءه، يعيش حالة وثنية سياسية بأصنام وصور مشرعة. ولقد وصف المفكر الراحل حامد ربيع جيل الهزيمة هذا فقال: «هذا الجيل هو حلقة في سلسلة طويلة من الأجيال التي تنكرت لتعاليم آبائها الأوائل، والتي خانت الوظيفة الحضارية الخلّاقة التي عهدت بها العناية الإلهية لأبناء هذه المنطقة، أجيال تركت الآخرين يشكلون منطقها وعقلها على المستوى الفردي والجماعي إنها مأساة جيل كامل، لا يستطيع أن يفهم حقيقتها إلا من عاناها وعاش جنباتها » إن الطغمة الحاكمة في الوطن العربي ليست إلا تعبيراً عن فساد الجسد ورخاوة الإرادة وتعفن الضمير، وكل شعب أو جيل لا يحكمه إلا من يستحقه، ويعكس خصائصه من ضعف وقوة.


علينا أن نعترف أن تخلف المنطق القيادي، ليس إلا النتيجة الطبيعية لقصور القوى الفكرية والمثقفة عن أداء وظيفتها. واذا كان الحاكم يتقن فن الكذب فليس إلا نتيجة عدم قدرة المجتمع على أن يواجه ذاته بصدق وصراحة. وللإنصاف نقول إن هناك تياراً من قلب هذا الجيل البائس المهزوم كانت تمثله قيادات فكرية ونخب مثقفة وأدباء وشعراء من مختلف التيارات السياسية، قامت بمراجعات نقدية مهمة بعد هزيمة حزيران/يونيو ١٩٦٧ التي كانت نقطة تحول في تاريخ العالم العربي بأسره.


ومن أهم المفكرين الذين كتبوا عن الهزيمة وأسبابها وجذورها بل هو من اوائلهم صادق جلال العظم في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" كما وشاعت قصيدة نزار قباني "هوامش على دفتر النكسة" التي يطلب فيها من الأطفال العمل بعيداً عن النماذج المهزومة وطلب ( جيلاً ثائراً عملاقاً يفلح الآفاق ) إذن فرغم الهزيمة العسكرية القاسية والمخزية إلا أن فكرة الثورة العربية وروح النضال والتغيير كانت حاضرة والسؤال المستمر والضاغط على الأنظمة وازلامها ومطبيلها ومن يدور في فلكها، بأنه "لماذا هزمنا؟" من المسؤول المباشر عن الهزيمة وعن جذورها وأسبابها العميقة.


استمرت فكرة الثورة والعمل من أجلها عند هذه الثلة القليلة من المفكرين والأدباء والشعراء رغم كل المعاناة والقمع والقهر التي مارستها الأنظمة المهزومة والخائنة عليهم، ولكن الأكثر إيلاماً في هذا المشهد هو سكوت جيل بأكمله من المحيط إلى الخليج على هذه الهزائم المتتالية وعلى هذه الأنظمة التي لانظام فيها لغير تنظيم السرقة والقهر والابتذال المطلق للحق والعدالة والنزعة الإنسانية والمجتمع والدولة والأمة، لقد جرى تحويل الهزيمة إلى «نظام» سياسي و«منظومة» قيم جرى غرسها بالقوة والعنف المنظّم. فأصبحت الهزيمة أسلوب للعيش والحياة والعمل، وأصبح القول بالهزيمة يعني القبول بكل رذائلها.




وبعد نصف قرن من تاريخ الهزيمة وجيل الهزيمة، وصلت الشعوب العربية إلى لحظة المفاصلة الحقيقية بينها وبين أنظمة الاستبداد المهترئة ومنظومتها المتخلفة على جميع المستويات.




فمع دخول عام ٢٠١١ انتفض مارد جديد وجيل لايشبه أي جيل سبق ولا يشبهه جيل آخر. يصح أن نطلق عليه "جيل العزيمة" وجيل الحرية والإرادة بل هو جيل المطاولة الكبرى والمنازلة التاريخية الحاسمة، التي يجسدها جيل الربيع ضد أنظمة التسلط والفساد، فإننا نعثر في هذه المنازلة التاريخية الكبرى ومراحلها على ظاهرة جديدة، وروح جديد، وجيل جديد، وأفق جديد. فهي من حيث محتواها وغاياتها واسلوبها ظاهرة جديدة في مواجهة النظام السياسي وتغييره. وهي أيضا تصنع روحاً جديداً في مواجهة إشكاليات المجتمع والأمة، وتجري وتتطور وتتكامل بعقول وأفعال جيل جديد متحرر من ثقل العقائد الحزبية المزيفة ورأيها السياسي، وإنها مجسدة الأفق الجديد لبناء الدولة والأمة بمعايير الإرث الحضاري الخاص والرؤية المستقبلية.


بل إن «جيل العزيمة» أو جيل الربيع العربي والثورات التي قام بها يمكنها أن تأسس لبداية القرن العربي. أي تاريخه الخاص. بالانتقال من نظام السلطة إلى نظام الدولة، ومن حكم العائلة إلى حكم القوى الاجتماعية الحية، ومن حكم القبيلة والمنطقة والجهة والإقليم إلى حكم النظام الاجتماعي الحقوقي. أي إنه يؤسس لنظام يختلف مع أنظمة تقوم على بنية تقليدية متخلفة لا تملك الشرعية السياسية ولا الرؤية المستقبلية.


إذن ليست ثورات الربيع العربي سوى بداية لثورات اجتماعية عربية كبرى، أنها الفصل الجديد في صيرورته التاريخية الجديدة، ولأول مرة يتحول الصراع بين الأنظمة وكل القوى الاجتماعية والسياسية من صراع سياسي اقتصادي إلى صراع الحرية والعدالة والحقوق. فجيل العزيمة هو جيل الروح المتمردة التي لا تقهر وجيل الإرادة الصلبة التي لا تكسر فلن يرجع ولن يستسلم حتى ينجز كامل مطالبه التي خرج وثار لأجلها في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية


الصيرورة التاريخية لثورات الربيع العربي من جيل الهزيمة إلى جيل العزيمة الصيرورة التاريخية لثورات الربيع العربي من جيل الهزيمة إلى جيل العزيمة الصيرورة التاريخية لثورات الربيع العربي من جيل الهزيمة إلى جيل العزيمة

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!