الوضع المظلم
الجمعة ٠٣ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الراحل نذير جزماتي.. تنوّع حياتي وغنى ثقافي
بسام سفر

من يعرف نذير جزماتي، أبو مهند، لا يمكن أن ينساه أبداً، إنّه شخصية متفرّدة فذّة، ذو بنية خاصة ذات حضور جميل مميز آسر بالدماثة وخفة الدم والظرافة، يتمتع بنكهة دمشقية مطعمة برحلة النضال الطويلة، وما أفرزته من قيم ومبادئ خاصة به بعيداً عن الكلاسيكية والتقليدية. نذير جزماتي


فهو الشيوعي الخارج من عبائة البكداشية نحو مدارس الشيوعية السورية، والراسم مساراً خاصاً به، والمترجم الموظف لمعارف اللغة الإنكليزية والعربية نحو نصّ أدبي أو سياسي مغاير للرطانة اللغوية، والخبير بالشؤون والمبادئ الشيوعية التي قيّم على أساسها انهيار الدولة السوفياتية، وحاول قراءة حال الدولة التي كانت متحققة فيها، والخبير بالموسيقا الكلاسيكية وغيرها، لكي يضع أكثر من كتاب خاص بالموسيقا وفنونها، والكردي الأصيل الذي كتب عن تاريخ الكرد وقضيتهم في زمن كانت الكتابة فيه ذات مسؤولية خاصة.


رحلة نضالية:


نذير جزماتي من مواليد العام 1934، خريج الأدب الإنكليزي من جامعة دمشق، عمل مدرساً للغة الإنكليزية في مدارس مختلفة بين (السويداء، دمشق، والزبداني)، ترجم أكثر من 35 كتاباً، أشهرها كتاب (جورج ألن: لا خبز.. لا حرية في سوريا)، حصل على جائزة لينين في العام 1980.


انتسب للحزب الشيوعي السوري في العام 1945، وكان نشيطاً في منظمات الحزب المختلفة، وفي العام 1972 شغل موقع عضو في اللجنة المنطقية لمدينة دمشق، وعندما حصل انشقاق (3 نيسان 1972)، بقي إلى جانب كتلة خالد بكداش. وفي العام 1979 خرج مع كتلة مراد يوسف (منظمات القاعدة) التي انفصلت عن تنظيم بكداش، وترك منظمات القاعدة في العام 1981، مع مجموعة من الشيوعيين.


انضم إلى حزب العمل الشيوعي في العام 2003، وانتخب كعضو في مكتبه السياسي في العام 2005، وشارك في تحرير جريدته "الآن"، ولعب دوراً مهماً في تأسيس تجمع اليسار الماركسي "تيم" في العام 2007، وشارك في هيئة تحرير "طريق اليسار" جريدته الشهرية، والمجلة النظرية "جدل".


فارق مواقف القوى السياسية المعارضة، خصيصاً مع قوى إعلان دمشق والإخوان، وغيرهم من القوى الأخرى، برفضه التدخل الخارجي في شؤون سوريا، من أي جهة كانت، وفضّل عدم الاستمرار في العمل السياسي على متابعة القراءة والترجمة في المنزل.


وكان قد شارك في إعادة تأسيس لجان الدفاع عن حقوق الإنسان، وعمل في الهيئة القيادية مجلس أمناء لجان الدفاع عن حقوق الإنسان، ومن الذين شاركوا في بيان التأسيس الجديد بتاريخ 14/9/2000، وكتب في مجلتها الشهرية الديمقراطية، التي تحولت إلى أمارجي.


محطات في حياته:


كتب أكثر من صديق له شيئاً من صفاته، فالروائي والباحث نبيل ملحم قال: "إنّ أول عرض مسرحي حضره النساجون من إخراج نذير جزماتي". والمحامي حسن رفاعة كتب: "قد يكون الشيوعي الأخير في دمشق، ركن الدين.. السلام لروحه". وكتب المخرج والكاتب والروائي غسان جباعي: "من يستطيع أن ينسى هذا الراحل.. المناضل والمفكر والمثقف الوطني والمسرحي السوري نذير جزماتي".


ومن العادات المحببة الخاصة بالراحل أبي مهند، أنّه يجمع ما يقرأ خلال الأسبوع أو الشهر، ويحوله إلى ملف ويصوره ويوزّعه على رفاقه وأصدقائه، لنقل المعرفة من الصحف المحلية والعربية، وأحياناً ما يترجمه بشكل ورقي أنيق ويصورها بنسخ خاصة به، مقابل ثمن الورق والحبر فقط، والذي لا يملك ثمنها يأخذ حصته دون مقابل.


ومن سماته الشخصية، عدم التسرّع في اتخاذ القرارات في أي موضوع من الموضوعات التي تناقش بحضوره، وكان يظهر ذلك في اجتماع هيئات التحرير لأكثر من مجلة، سواء "الآن أو طريق اليسار أو جدل"، حيث يطلب بعد قراءة المقال أو الدراسة من كاتبها في هيئة التحرير أن يمدّد النقاش بها إلى جلسة أخرى، بالقول: "أريد أن أنام معها ليلة واحدة، لكي يتسنّى لي وضع ملاحظاتي وقراءتها بشكل جيد". ويكمل ضاحكاً: "وهذا حقي".


وبعد اجتماع طويل لمجلس أمناء لجان الدفاع عن حقوق الإنسان في منزل الحقوقي أكسم نعيسة، بمشروع دمر، ساد نقاش وصراخ، قدم استقالته من مجلس الأمناء واللجان. جرت العادة للوصول إلى دار موقف الباص المشي سيراً على الأقدام، نسأل أبا مهند، لماذا قدّمت استقالتك؟ فأجاب: "إذا كنا بضعة مدافعين عن حقوق الإنسان، ولا نستطيع الحفاظ والدفاع عن حقوق بعضنا البعض، كيف سندافع عن حقوق الإنسان؟".


وفي إحدى اجتماعات هيئة تحرير (الآن، المجلة المركزية لحزب العمل الشيوعية)، كان الراحل أبو مهند يعدّ مادة للمجلة توثيقية تحريرية عن الأحداث بالتواريخ، وأبدى بعض الرفاق اعتراضهم على هذه المادة بوصفها تجميعية وإعادة تحرير، ولا تتضمن موقفاً سياسياً واضحاً للمجلة والحزب.


وعندما تبلّغ الرفيق أبو مهند هذه الملاحظة، قدّم استقالته من هيئة التحرير، ودافع عن عمله ورأيه بالقول: "هذا الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في الكثير من القضايا يعرضها بأسلوبه الشيق والرشيق، يقدّم لنا المعرفة والخبرة ويترك للقارئ حرية اتخاذ الموقف الذي يريده".


مسرح السويداء:


كتب الراحل نذير جزماتي عن مسرح السويداء، قائلاً: "في جبل العرب مثل غيره من بلدان العالم، ليس هناك من لا يصلح لأن يكون فناناً حقيقياً، وخصوصاً في مجال المسرح والموسيقا، فالمضافة على سبيل المثال: مسرح قائم بذاته يقدّمون على خشبته كل مساء مسرحية جديدة، ويشهد الناس مسرحيات تراجيدية حقيقية على مسرح المأتم، في الوقت الذي يشهد غيرهم كوميديا على خشبة مسرح الأفراح والأعراس، وكأني بجبل العرب أعمق غوراً في هذا المجال من الفنون من مناطق أخرى في البلاد".


وأكد أبو مهند أنّه "عندما لم يكن في دمشق في الستينات وأوائل السبعينات غير ممثلتين اثنتين، ويضطر أحياناً لأن يقوم الرجل بأداء دور المرأة، وقفت أكثر من مئة فتاة بعمر الورد في مدينة السويداء، في عامي (1968-1969)، ممثلة وراقصة على خشبة مسرح سينما سرايا في مدينة السويداء".


ويوضح الصورة أكثر: "لقد شهد عدد كبير من أهالي (المقرن الجنوبي)، مسرحية (المهدي بن بركة) التي كتبها، على مسرح المركز الثقافي في مدينة صلخد الرائعة، واشترك في تمثيلها من طلاب ثانوية صلخد (حسن أبو ترابة، أسد حمزة، رسلان الشريطي وآخرون)".


وأشار الراحل أبو مهند إلى قمة الأعمال المسرحية التي قدّمها باسم نادي الفنون المسرحية، هي مسرحية (النساجون) للكاتب  الألماني جير هاردها بتمن، بالتعاون مع عدد من الأعضاء، كان منهم طلال الحجلي.


ويوثّق أكثر عن نشاطه المسرحي، بأنّ العمل المسرحي البارز الذي أخرجه لنادي الفنون بمساعدة طلال الحجلي كان مسرحية "من أجل فلسطين"، التي عدّلها عن نصّها الروماني لتلعب فيها المقاومة الفلسطينية دور البطولة. وأضاف أنّها حظيت، مثل سابقتها (النساجون)، بإقبال جماهيري واسع لم تشهده المحافظة من قبل.


ويصف تلك المرحلة بالقول: "لقد حاولت مع عدد كبير من الشباب في صلخد والسويداء وشهبا الإمساك ببداية خيط تيار الوعي السياسي في المسرح، وقد غمرني أهل المحافظة بفضلهم، وعلموني ما كان ينبغي أن أتعلّمه. ولقد قامت في السويداء حركة مسرحية هامة جداً قبل أن أسهم فيها، وبعد أن أسهمت، ولكثير من الفتيات والفتيان الذين أصبحوا، أو أصبح معظمهم كهولاً الآن، فضل إقامتها ونجاحها".


إنّ حياة الراحل نذير جزماتي "أبي مهند" من التنوع والغنى ما لا يمكن رصده في مقال أو دراسة، ويكفي أنّه في زمن كان الكثيرون غير مهتمين في المسرح والفنون، أسهم في تكريس واقع مسرحي في مدينة السويداء السورية.


ومن جانب آخر، إنّ اهتمامه بالقضية الكردية دفعه للكتابة "موقع الأكراد وكردستان تاريخاً وجغرافياً وحضارياً"، باسم (ن محب الله)، في زمن كان الاقتراب من القضية الكردية كفيل بدفع ثمن هذا الاقتراب.


أخيراً، أتمنى أن يتاح الزمن لمحبي ورفاق الراحل "نذير جزماتي" الاحتفاء بالقضايا التي كان يحبها، لتبقى حية في حياة أجيال أخرى من السوريين. نذير جزماتي



ليفانت - بسام سفر 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!