الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٧ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
آخر فصول الموت السوري.. والأمل أيضاً
عبير نصر

أيّ قارئ للتاريخ يدرك كيف غدت الأزمة السورية ذات جاذبية كبرى، بعدما استقرت على ثقافة "تمجيد الموت" كوسيلةٍ وحيدة لتلمس درب الخلاص. فراغ أخلاقي وإفقار شامل دفع بالسوريين إلى رفع شعار "أنا إنسان مو حيوان". عبارة أعادت تأسيس العدم السوري على شكلِ هيمنةٍ مطلقة قائمة على فكرة الاستباحة الشاملة لكلّ شيء. وعليه اللازمة الثابتة التي يجب تسويقها هنا هي القول إنّ سوريا الراهنة، ليست نتيجة مواجهة محتدمة بين نظام استبدادي وقوى تطلب الحرية، كما كانت في عام 2011، إنما هي "محصلة حرب" بين قوى وطوائف وقوميات ودول، أكثر تعقيداً وتركيباً مما كانت، ليس بها "ضربة قاضية"، تستطيع أن تُنجي أحداً أو جماعة ما، فكيف بالحال مع دولةٍ وشعب كامل.

الاعتراف بهذا الواقع، يفتح قوساً كبيراً حول مجموعة الممارسات والاستراتيجيات وأنماط التفكير التي دفعت السوريين إلى التلاشي في ظلّ نظامٍ عجائبي قادر على الإبحار في الزمن. جاء على خلفيةٍ فاشية جديدة فالتة من عقال العنف، بعدما صارت فيديوهات الذبح والسبي والاستباحة والتدمير والتفقير والترهيب، أشبه بمسلسل في تلفزيون الواقع. يخيف ويبهر، يغري وينفّر، مقدماً زاداً "روحانياً" لغرائز البقاء. لنتفق أنّ الحرب في حقيقتها صراعٌ وجودي بين اليأس والأمل، وعليه واحدة من أصعب الرهانات وأقساها في حياة السوري، أنْ يختار اقتحام أكثر دروب المجهول خطراً وحلكةً، وهو يقبض على نسبةٍ لا تكاد تبلغ 1% على مقياس النجاح أو النجاة، فقط ليقف أمام رهاناتٍ صعبة وعديدة في بلاد مجهولة بعيدة. فإمّا أنْ يُقبض عليه ويُعاد إلى بلاده مكبّلاً، وإما أن يبدأ لهاثاً جديداً وطويلاً على دروب الإقامة والعمل ومحاولات الاندماج في مجتمع مختلف تماماً عن البيئة التي وُلد ونشأ فيها.

إنه بالتأكيد رهان بحجم الحياة كلّها، وبحجم الموت أيضاً، فما الذي يدفع أيّ سوري إلى تبنّي مغامرة الحياة والموت تلك عن سابق إصرارٍ وترصد؟ بعدما غدت البلاد خزاناً لليائسين والمقهورين والحالمين والمغامرين؟ وفي ظلال هذا "البؤس العام"، الذي يغطي شتّى أشكال الحياة التي يعيشها السوريون، بمختلف هوياتهم وخياراتهم ومناطقهم، يحضر السؤال الأكثر حيوية ووجوباً في الراهن: إلى أين سينتهي كلّ هذا؟ إذ لا يُعقل أن يُترك ويُتعامل مع قرابة ثلاثين مليون سوري، موزعين داخل البلاد وفي محيطه وعبر العالم، دون أيّ إطار أو تعريف لأحوالهم وأنماط حياتهم وحقوقهم الأكثر بساطة، اليوم وفي كلّ المستقبل المنظور.

من جهة أخرى، يستنكر العالم الأعداد الكبيرة للسوريين الذين يتخلون عن وطنهم ليموتوا على طريق الحلم الأوروبي، على متن قوارب متهالكة تفتقد لأبسط معايير السلامة. لا يعلمون أنّ مغامرات الهرب إلى المجهول ليست مجرّد تأديةِ آليةٍ روتينية مفتقدة للمعنى والشغف، إنما هي محاولة التوقف عن انتظار الموت الجاهز. هذا الاستغراق السوري الجماعي بما يحمله من تحديات، يجعل العقول محصنة ضدّ خطاب التسفيه والتيئيس الذي يبرع فيه نظام الأسد. لذا يخاطرون بحياتهم متحدّين جشع مافيات التهريب، الذين يعمدون إلى إغراق القارب عن قصد، أو يسلّمونه إلى المهاجرين لقيادته بأنفسهم بعد حصولهم على المال، تاركين هؤلاء يواجهون مصيرهم المحتوم. ولا تتوقف المعاناة هنا، إذ وبمجرد الوصول إلى اليابسة، يواجه الناجون من الغرق المعابر الحدودية الخطيرة، وغالباً ما يتعرضون للضرب من قبل السلطات الأوروبية، ويُجبرون على العيش في ظروف فظيعة، تتضمن عادة بقاءهم في العراء، خاصة في الشتاء، ليقضي كثيرون نحبهم بسبب البرد القارس، جلّهم من الأطفال.

وفي الحقيقة لن يسهّل وصول السوريين إلى شاطئ الأمان أولى حوادث الغرق المؤلمة التي تخص الطفل السوري إيلان الذي قذفته الأمواج إلى الشواطئ التركية جثة هامدة، وسط استنكار عالمي وتعاطف دولي مع قضايا اللاجئين، ما دفع إحدى الدول إلى إصدار طابع بريدي يحمل صورته. أو العثور مؤخراً على عشرات الجثث قبالة جزيرة أرواد، تسربت من مركب أبحر من شمال لبنان. راوحت التقديرات بشأن عدد ركابه بين 100 و150 شخصاً من اللبنانيين والفلسطينيين، وطبعاً السوريين.

وبحسب إحصائية "المنظمة الدولية للهجرة"، فإنه منذ بداية عام 2022 وصل عدد الموتى المهاجرين عبر البحر إلى /3378/ شخصاً، وخطر ارتفاع هذه الأرقام قائم، بسبب ازدياد الحملات الدعائية للهجرة، حيث انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، حملات الترويج للهجرة من ليبيا عبر البحر إلى أوروبا، بينما يغيب عن الكثيرين تعرّض آلاف من الرجال والأطفال والنساء للاتجار والاستغلال والاحتجاز التعسفي والتعذيب، إضافة لابتزاز الأموال منهم لمجرد أنهم مهاجرون. فعند وصولهم إلى ليبيا يتم اختطاف العديد منهم واحتجازهم في الأسر من قبل الميليشيات أو الجماعات المسلحة الأخرى، أو استخدامهم من قبل المهربين كعملة، فالأجنبي بالنسبة لهم كالألماس. العديد من التقارير الدولية، بالإضافة إلى آلاف الروايات من قبل الناجين، وثقت المعاملة الشنيعة التي تلقاها المهاجرون واللاجئون في ليبيا. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أقرت "بعثة تقصي الحقائق" التابعة لـ"الأمم المتحدة" في ليبيا، أن هذه الانتهاكات جرائم ضد الإنسانية.

ويؤكد بيانٌ نشره المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان وجود أربعة مراكز احتجاز في العاصمة طرابلس، وهي سجن الزاوية، وأبو سليم، وعين زارة، وغوط الشعال. كما يؤكد أنه تلقى إفادات من أقارب مهاجرين سوريين محتجزين في طرابلس، تُشير إلى أنّ المحتجزين يعيشون ظروفاً إنسانية غاية في السوء، ويتعرضون لانتهاكات مركبة تمسّ سلامتهم وكرامتهم. وفي أوروبا نفسها، تستمر المواجهات في البحر حول إنقاذ الناس، إذ جرت 21 مواجهة متعلقة بأكثر من 2,600 امرأة ورجل وطفل في أشد الحاجة للمساعدة الإنسانية. في المقابل الأرقام التي نشرتها الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل "فرونتكس" تظهر أنّ عدد المهاجرين غير المنظمين ارتفع إلى 114 ألفاً و720 في النصف الأول من عام 2022، بزيادة 84% عن العام الماضي، ومن المرجح أنّ يكون كثيرون قد أفلتوا من الكشف، وأنّ عدد الذين يحاولون الدخول عبر غرب البلقان ارتفع بنحو 200%، ومن المتوقع أن يعبر نحو 60 ألف شخص القناة في قوارب هذا العام، أي ضعف العدد الإجمالي لعام 2021.

قد تختلف الدوافع والمبررات بالنسبة للكثير من السوريين الذين يختارون أسلوب الهجرة غير الشرعية أملاً في الهروب من واقعهم الأليم، إلا أنّ هذا الأمل سرعان ما تبدده المياه الغادرة، حيث النهاية غرقاً وجوعاً وعطشاً، وفي أحسن الأحوال احتجاز في سجون الدول التي وصلوا إليها ليُعاد ترحيلهم من جديد. مع هذا يهرع السوريون إلى قوارب الموت، بثقة المهزوم الذي ما عاد يملك شيئاً يخسره. قوارب تمثل آخر فصول الموت السوري، والأمل أيضاً، فيها تتلاشى الفوارق الطائفية والعرقية والثقافية والاجتماعية. يلقيها السوريون على الشواطئ قبيل صعود المركب، ليصبحوا أهل جنوب العالم المتخم بالثروات والويلات والدمار، هاربين باتّجاه الشمال الذي دأب على مدى مئات السنين في نهبهم  واحتلالهم، وتنصيب الفاسدين وحمايتهم بأيّ ثمن. وفي الحقيقة هذه مفارقة ومحاكمة عقلية وإنسانية وسياسية واقتصادية فاصلة في التاريخ والحاضر والمستقبل لا يمكن القفز عنها والاقتصار على الحديث عن ركّاب قوارب الموت وآمالهم وآلامهم وأوجاع أهليهم.

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!