الوضع المظلم
الأربعاء ٠٦ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
لماذا يطيع الجيش التركي أردوغان؟
داليا زيادة

لأكثر من ست سنوات، لم يتوقف أردوغان عن إلحاق الخراب بدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مستعيناً بالمرتزقة وعناصر التنظيمات الإرهابية، التي تشارك تركيا وقطر في رعايتها، لتهديد أمن واستقرار دول المنطقة، بهدف تدميرها وإقامة نظام الخلافة الإسلامية على أنقاضها، ومن ثم استعادة إرث الاحتلال العثماني التاريخي بالمنطقة، لكن يجب أن لا نغفل حقيقة أن المرتزقة الذين زرعهم أردوغان على الأرض في سوريا والعراق وليبيا يقومون بعملياتهم التدميرية تحت إشراف وقيادة مباشرة من الجيش التركي، وهو ما يستدعي الانتباه للدور المتناقض الذي يقوم به الجيش التركي العلماني في تحقيق الأجندة الإسلامية لأردوغان.


لم يعد السؤال الملح اليوم هو لماذا يغض المجتمع الدولي الطرف عن جرائم أردوغان في الشرق الأوسط، بل إن السؤال المثير للاهتمام حقاً هو لماذا يطيع الجيش التركي العلماني أردوغان الإسلامي، بل ويدعمه هو وحزبه الإخواني بالعتاد والأرواح في سعيه لإقامة دولة الخلافة الإسلامية على أنقاض الدول الوطنية العلمانية في المنطقة، لا سيما وأن إحدى الأيديولوجيات التي يعتنقها الجيش التركي منذ عقود تتركز حول كونه جيش يحمي "العلمانية" و"الكمالية" نسبة إلى كمال الدين أتاتورك مؤسس الدولة العلمانية الغربية الحديثة في تركيا. والسؤال الأهم هو كيف ومتى فقد الجيش التركي هيبته وأهميته لصالح أردوغان والإخوان المسلمين، وهو الجيش الذي قال عنه الرئيس التركي السابق سليمان ديميريل ذات مرة: "في تركيا، خلق الله الجيش أولاً، ثم أدرك خطأه فخلق الشعب التركي لاحقاً."


منذ أن بدأت غزوات أردوغان الاستعمارية في الشرق الأوسط، فقد الجيش التركي عدد كبير من الضباط والجنود والعتاد لصالح مشاريع أردوغان. في مطلع شهر يوليو الجاري، زار وزير الدفاع التركي مدينة الوطية في غرب ليبيا، وأمر ببناء قاعدة جوية هناك، وبعد ذلك بأيام قليلة، استهدفت الغارات الجوية التي شنها الجيش الوطني الليبي، بمساعدة حلفاءه الإقليميين، القاعدة الجوية التركية، مما أدى إلى تدمير ثلاثة رادارات بالكامل وقتل ستة عسكريين أتراك، من بينهم قائد عسكري مرموق. وفي شهر فبراير، قُتِل ضابطين تركيين آخرين خلال هجوم عسكري تركي سابق على ليبيا.


يرى بعض المراقبين أن محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان، في عام ٢٠١٦، وما نتج عنها من تطهير لكبار القادة العسكريين المعارضين لسياسات أردوغان، قد أضعفت أواصر المؤسسة العسكرية وأدت إلى تفكك هيكلها الداخلي، وقد أجبر ذلك قوات الجيش، التي تعمل حالياً تحت قيادة عسكريين معروفين بالولاء لأردوغان، على العمل تحت جناح أردوغان والانصياع لأوامره خوفاً من ملاقاة مصير زملائهم، بالقتل أو الحبس أو الطرد. وقد عزز هذه الفرضية صدور تقرير، في عام ٢٠١٧، عن مركز المخابرات والحالة بالاتحاد الأوروبي (أنتسين)، قدم معلومات عن أن أردوغان كان قد خطط بالفعل لتطهير الضباط المخلصين للمبادئ الكمالية والعلمانية من القوات المسلحة، قبل محاولة الانقلاب بفترة طويلة، وهذا يعني أن محاولة الانقلاب كانت تهدف إلى استباق التطهير المخطط له مسبقًا. أو بعبارة أخرى، لم يكن التطهير الذي قام به أردوغان ضد القيادات العسكرية نتيجة انتقامية للانقلاب الفاشل، بل كانت خطة أردوغان لتطهير القيادات المناصرين للعلمانية بالجيش هي ما دفعهم للقيام بمحاولة الانقلاب ضده لإنقاذ أنفسهم.


ومع ذلك، يخبرنا التاريخ الطويل للجيش التركي، والمعتقدات الأصيلة التي يحملها، أن الخضوع الحالي الذي يظهره الجيش التركي العلماني أمام نظام أردوغان الإسلامي، هو خضوع طوعي واختياري ولن يدوم طويلاً. إن النزيف المستمر للأفراد والمعدات العسكرية سعياً لإرضاء أطماع أردوغان غير المشروعة في الشرق الأوسط قد أنهكت الجيش التركي بالفعل، وأثارت الكثير من الغصة والاستياء في نفوس الضباط والقادة. فقد نشرت المؤسسة البحثية الأمريكية "راند كوربوريشن"، في يناير من العام الجاري، تقرير بعنوان "المسار الوطني التركي: الانعكاسات على الشراكة الاستراتيجية الأمريكية التركية والجيش الأمريكي"، ذكرت فيه أن هناك استياء شديد ضد أردوغان داخل الجيش التركي، قد يؤدي إلى محاولة انقلاب أخرى في المستقبل.


وعلى الرغم من ذلك، فإن القبضة القوية التي أحكمها أردوغان على مؤسسات الدولة، بما في ذلك القوات المسلحة، بعد الانقلاب الفاشل في عام ٢٠١٦، ليست هي السبب الوحيد لعدم قيام الجيش التركي بتحدي أردوغان أو التخطيط لانقلاب جديد ضده حتى الآن. وفي رأيي، هذا لا يصلح أن يكون سببًا منطقيًا لتبرير طاعة الجيش لأردوغان من الأصل، فلو كان القادة العسكريين بالجيش التركي مستعدين أو راغبين حقاً في تحدي أردوغان أو الانقلاب ضده، لما كانوا تسامحوا وصبروا طويلاً على سيطرته وفشله في إدارة شئون الدولة واستنزاف موارد القوات المسلحة في حروب خارجية، من أجل إقامة دولة الخلافة الإسلامية، والتي تتناقض تماماً مع مبادئ عقيدتهم القتالية. في الواقع، يبدو أن الجيش التركي غير مجبر على طاعة أردوغان، وأن هذه الطاعة هي نابعة من إرادة اختيارية حرة داخل الجيش التركي، من أجل الحفاظ على صورة الجيش وشرعيته، ليس فقط في أعين الشعب التركي، ولكن أيضاً في أعين المجتمع الدولي.


فمن ناحية، لدى الشعب التركي مشاعر سلبية قوية تجاه الانقلابات العسكرية، نظراً لتكرار وقوعها في حقبة الحكم العثماني، وبالتالي يعلم الجيش التركي جيداً أن المعارضة السياسية العلمانية لن تؤيد مطلقاً قيام الجيش بانقلاب ضد أردوغان، ولن تقوم أي قوى سياسية أو شعبية معارضة، لأي سبب كان، بدعوة الجيش لتخليصهم من أردوغان. هذا غير ممكن بسبب أن العقل الجمعي للمواطنين في تركيا ينظر إلى دور الجيش في إطار حماية الدولة فقط، وليس كطرف في أي تفاعلات أو معادلات سياسية. وكذلك يعلم قيادات الجيش أنهم لو قاموا بانقلاب ضد أردوغان ونجح في الإطاحة به، فإن العواقب السياسية ستكون مدمرة للغاية، خصوصاً في ظل حالة الانهيار الاقتصادي التي تعاني منها تركيا حالياً، ولن يتمكن الجيش من التعامل معها، كما سيؤدي ذلك إلى تعريض تركيا لمخاطر أمنية ضخمة، نظراً لاحتضانها الطويل لإرهابيين من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) داخل تركيا وشمال سوريا.


أما البعد الآخر فهو مرتبط بالمكانة الدولية والعلاقات الخارجية التي يتمتع بها الجيش التركي مع الحلفاء المهمين حول العالم، فمثلاً وزير الدفاع الحالي، خلوصي آكار، وهو من أصحاب الولاء لأردوغان، يحظى باحترام كبير لدى الإدارة الأمريكية والبنتاجون، وكثيراً ما يتواصلون معه بشأن القضايا المتعلقة بتركيا والعمليات التركية في الشرق الأوسط، ربما بوتيرة أكبر من تواصلهم مع أردوغان. كما أن الجيش التركي هو ثاني أكبر قوة عسكرية دائمة في الناتو، بعد الجيش الأمريكي، ومن المبادئ العسكرية الثابتة لدى كل الجيوش الملتحقة بحلف الناتو، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، هو تمكين الدولة المدنية من السيطرة الكاملة على عملية اتخاذ القرار داخل القوات المسلحة، وانطلاقا من الالتزام بهذا المبدأ، فإن الجيش التركي العلماني اختار أن يخضع بكامل إرادته وبشكل طوعي لنظام أردوغان الإخواني، حتى لو اختلف معه سياسياً وأيدولوجياً، من أجل الحفاظ على صورة ومكانة الجيش التركي مع حلفاءه.


وبناءً عليه، فإنه من غير المرجح أن يقوم الجيش التركي بتدبير محاولة انقلاب أخرى ضد أردوغان أو يتوقف عن تنفيذ هجماته المدمرة وغير المشروعة على دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لصالح أجندة أردوغان والإخوان المسلمين، إلا أن الانهيار الاقتصادي الذي تعاني منه تركيا الآن، بالإضافة إلى سجل طويل من الإخفاقات السياسية لأردوغان وحزب العدالة والتنمية في إدارة شئون البلاد، على مدى السنوات الماضية، يشير إلى أن نهاية أردوغان كرئيس لتركيا قد اقتربت، وإذا لم تندلع ثورة شعبية ضد أردوغان في الأشهر المقبلة ، فحتماً سيتخلص منه الشعب في أول انتخابات عامة في ٢٠٢٣. إن نهاية أردوغان أقرب بكثير مما نعتقد وأسهل بكثير من الحاجة لتنظيم انقلاب عسكري ضده.


 


داليا زيادة

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!