الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
سَأَمُ.. ألبرتو مورافيا المُثير
نزار غالب فليحان

قد لا يكون للنص الروائي من عنوانه نصيب، وقد يلعب دوراً سلبياً يدفع القارئ بعيداً عنه إلا مَن عرف الروائي وآمن بموهبته وإبداعه، وربما مفاجآته، وقد يكون العنوان موارباً بحيث يوحي بمنعىً لكنه يكشف عن معانٍ أخرى.

أشكل عليَّ عنوان رواية ألبرتو مورافيا "السَّأَم" وكنت قد قرأت قبل ذلك روايته "الانتباه"، ترددت كثيراً قبل الدخول في عوالم "السَّأَم" ترددي في الإقدام على قراءة "الانتباه"، لكنني آخر الأمر قرأتها.


قبل الحكاية

كنت أظن أن لا حكاية في "السَّأَم"، لكنني وبعد تمهيد الرواية الذي شرح مراحل تسلل السأم إلى روح "دينو" الرسام الذي هجرته الرغبة في متابعة الرسم، ثم عرض مقاربات قد تشرح معنى هذه القيمة التي تهدم الرغبة وتجعل الفرد حيادياً غير ذي فعالية:


"إن حس الواقع حين يتملكني السأم، يُحدث لدي ما يُحدثه للنائم غطاء قصير أكثر مما يجب، في ليلة شتوية: فإذا سحبه على قدميه، أصيب بالبرد في صدره، وإذا رفعه إلى صدره، أصيب بالبرد في قدميه، فهو، لهذا، لا يستطيع أبداً أن ينام قرير العين، أو هذا التشبيه الآخر: إن سأمي يشبه انقطاع المجرى الكهربائي في بيت. فكل شيء منير وواضح، في لحظة من اللحظات: هنا الكراسي، وهناك الأرائك، وهناك الخزائن والمناضد واللوحات والبسط والطنافس والنوافذ والأبواب. وفي اللحظة التالية، لا يكون ثمة بعد إلا ظلام وفراغ. أو التشبيه الثالث: إن في الإمكان تعريف سأمي بأنه مرض للأشياء. هو عبارة عن ذبول وفقدان للحيوية مفاجئين تقريباً. فالأمر كأنه هو رؤية زهرة تتحول، في بضع لحظات، من التفتح والذبول، إلى التفتت."


وربما كان تمهيد "السَّأَم" الفخ الذي أشعل فتيل الإثارة والفضول نحو استكشاف مدى قدرة الكاتب على رصد تفاصيل عبر السرد يمكن أن تشرح سأمه، كيف أصيب به؟ وكيف استمر؟ وما هي صيرورته؟ 

كل هذا السأم كل هذه الإثارة

"دينو" الكاره للثروة والمال، الهارب من أرستقراطية أسرته "أمه على وجه التحديد" إلى الانغماس في حياة الناس العاديين، يتخذ لنفسه مرسماً قرب مرسم "باليستياري" الرسام المسن الذي تعتعته مغامراته، المفتون في إنجاز لوحات لأجساد النساء، كانت "سيسيليا" الفتاة المراهقة التي وقع في حبها نهاية المطاف، وكان أن قضى بين يديها ذات غرام.


يرث "دينو" السائم جسد "سيسيليا" التي لطالما رغبت في التعرف إليه يوم كانت ترتاد مرسم "باليستياري"، وتبدأ معركة امتلاكه لها، المعركة التي كانت مليئة بالإثارة والمغامرات والملاحقات، المعركة التي كان يمطر "دينو" خلالها "سيسيليا" بالأسئلة، وكانت تختصر في إجاباتها وتظهر شخصاً حيادياً لا يمكن أن تأخذ منه حقاً ولا باطلاً، وكانت لا مبالية لا تكترث كثيراً بما سيأتي، حتى كان من السهل عليها جداً أن تصرح لـ "دينو" بكل علاقاتها الغرامية مع غيره قبل وأثناء التعرف إليه وإلى "باليستياري"، كان "دينو" في تحقيقاته سَؤولاً لَحوحاً مملاً حَدَّ الجنون، وكانت "سيسيليا" في ردودها شحيحةً مضجرةً مُقِلَّةً حّدَّ العدم، الأمر الذي كان يدفع "دينو" أكثر نحو معرفة التفاصيل، ورصد الحقيقة، حتى خاض جدلاً حول كيفية امتلاك "سيسيليا" أو إلغائها تماماً، عبر العشق ثم المال ثم التصالح مع وجود غريم له ثم التفكير بالزواج منها ثم محاولة قتلها ثم الانتحار .


يصل "دينو" إلى نتيجة مفادها أنه ابتعد عن الرسم لذات الأسباب التي دفعته إلى الانتحار، وأن علاقته بـ "سيسيليا" لم تكن تختلف عن علاقته بالواقع، وأن هروبه من الواقع إلى الرسم ثم من الرسم إلى السأم ثم محاولة الخروج من السأم والعودة إلى الرسم عبر "سيسيليا" التي أيقن أنه أحبَّها وحسب، الأمر الذي مكنه في التفكير في العودة إلى الرسم من جديد، العودة التي بدأ يشك فيها وربَطَها بعودة "سيسيليا" من رحلتها إلى شاطئ "بونزا" رفقة حبيبها "لوسياني".


بعد محاولة "دينو" الانتحار ومكوثه في المشفى قبالة شجرة تَبْرُز من شباك غرفته لا يملك إلا النظر إليها في تأمل لا نهاية له، راح يرغب في أن يسأمها "الشجرة" أو يسأم "سيسيليا" أو أي شيء آخر، أي أن تَمَّحي "سيسيليا" من حياته، لكنه وصل إلى نتيجة مختلفة:
"الغريب أن سيسيليا إنما بدأت توجد بالنسبة إليَّ ابتداءً من هذا التخلي".


في هذا السياق، وعلى مساحة النص الذي بناه الكاتب على مُعْطىً يوحي بالملل، لم تخل صفحة واحدة من إثارة في مكان ما، كان ينبغي بناء جسور وجدل بين الأفكار والقيم التي يطرحها النص "خيانة – حب – امتلاك – انعتاق – شك – تضحية - إلغاء ..."، والانتباه إلى تدفق السرد ببساطة وخفة كما في اشتباك ودراماتيكية، وانسياب المشاهد الغرامية كضرورة وحتمية لأنها كانت لـ "دينو" الحامل الرئيس لامتلاك جسد "سيسيليا" ثم روحها وجسدها تالياً. 


عبر "السأم"... تَحَدَّى ألبرتو مورافيا فضول القارئ، ورغبته في القراءة، ففاز القارئ بتحفة سردية تحيل إلى نمط مختلف من الحكي، نمط يكون فيه القارئ فاعلاً كما أبطال النص.


ليفانت: نزار غالب فليحان

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!