-
بين ضفتي العقلانية وإلياس مرقص
يقف سطح الكوكب اليوم على فوهة بركان، يكاد يهدد الحياة البشرية وتاريخها وحضاراتها، إذا ما انفجر. تنامي فورة المصالح المادية على حساب القيم الحضارية الإنسانية، السلم العالمي، الدول المستقرة، حقوق الإنسان، الخير والعدل والسلام، جمعيها مهددة اليوم، وجذر تهديدها في هذا الفصل الجزافي بين حدّي الوجود: المادي والقيمي.
ليست مصادفة أن تكون وحدة الوجود الكوني جدلياً بين ضفتي الكون: العقل والفكر مع الوجود المادي بما فيه المصالح والحاجيات، نموذج رئيس في فكر الراحل إلياس مرقص، فكر العقلانية التي لا تجد لها موطئ قدم اليوم، لا على سطح الكوكب عامة، ولا في مسائلنا المحلية والسورية خاصة.
وحدة الوجود والفكر الكوني، المتجاوز طبيعياً إطلاق وهيمنة العلوم السابقة والأيديولوجيات المتفانية مثنوياً، هي الشغل الشاغل للمرحوم إلياس مرقص، وخط العقلانية السوري والعربي، الذي بات نادراً اليوم وقليل الحضور أمام السعي المادي المتغوّل مصلحياً في هدم الحضارة البشرية؛ حيث تسود إحدى ضفتيها على حساب الأخرى. وما يشهده الكوكب اليوم من تغوّل لنزعة المصالح المادية المتمثلة بالحرب الروسية على أوكرانيا، وقبلها توسّعها الفجّ في سوريا، بمقابل طريقة حلف الناتو بإدارة ذات المصالح، مع نفي كلي للجانب العقلي والقيمي للإنسان وحضارته.
ليس لأن إلياس مرقص فيلسوف وناقد ومفكر سوري وعربي غزير الإنتاج بعشرات العشرات من الكتب والترجمات في زمن قياسي فقط، بل لكونه كان دائم الحضور في النقد وتصور عالم اليوم والغد والدفاع عن خيره وسلامه. هو كما غيره من مفكري الأمة التي ترغب في أن تكون، وربما في مقدمتهم، الأكثر شقاء في الوعي والمعرفة والسعي للتأسيس لوطن هو أمة ودولة معرفياً وعقلياً. فحيث يكون النقد سلباً أو إيجاباً هو الأسهل على الناقد والقارئ معاً، يكون وضع التصور البديل والبحث في أسسه وتأسيسه المعرفي والدفاع عنه هو الأشقى. كونه إمكان عقلي له سمة "السلب" و"النفي" و"التوقع"، نفي ما هو قائم كواقع متعين يظن من هم في حلقاته أنه مطلق، "إلهي"، ثابت، منتهي وغير قابل للتغيير، كما واقع الاستبداد الذي عشناه عقوداً وربما قروناً قبله. عندها يصبح هذا النقد عقلاً يشقى بنفسه، ويقف على قمة الألم والمعاناة في التأسيس لتلك القيم التي تخالف تيار التأخر والاستبداد واستبدالها بجملة قيمية مفاهيمية، تكتنف روح الأمة ورؤاها، هو عقل يشقى بوعيه وبمصير الإنسان. إنها العقلانية والوعي الكوني الذاهب في النقد والتأسيس المعرفي معاً، إنه العمل الأصعب والأشقى في عالم الممكن وشق سيره بين المسلمات والثوابت، إنها جنين ثورة قبل الثورة الفعلية.
الجدل المعرفي، حسب إلياس مرقص، كما كل خط العقلانية الذي لم تحتضنه ثقافة الموت والاستبداد السياسي والديني من قبل، ليس قوانيناً فيزيائية كما عند رهط من "المتمركسيين" والشيوعيين العرب والسوريين خاصة، فلا المادية الديالكتيكية قرآن ولا ماركس "إله" كما أراده أولئك الذين ادّعوا حل الكون بمجموعة من النظريات افترضوها مسلمات وقوانين طبيعية. واليوم يقفون في الجانب المظلم من التاريخ مع روسيا في حربها الأوكرانية، مبررين مصفقين، تحت عنوان العداء للإمبريالية! وقبلها احتضنوا الاستبداد الفكري والعسف الذهني وسلطات العسكر، وقد أحالوا الأفكار والتصورات لجملة من المسلمات والقوانين المادية ونزعوا عنها الروح والنقد. وليس فقط هو بل أصبغوها بضحالة القيمة الفكرية والأخلاقية لحقوق الإنسان والديمقراطية والحريات بشتّى أطرها.
الجدل هو نظرية في المعرفة أولاً والمنطق أيضاً وليس ثانياً، نظرية المعرفة والمنطق التي ترقب خط التاريخ، تدرس سيره الطبيعي وقفزاته "الطفرية" النوعية في الوعي والتقدم البشري نحو الإنسانية كعقل وروح. إنها جمل معرفية متعاقبة متتالية ترتقي مع الزمن، تدور على عقبي المعرفة والروح، وتستند لجداري العمل والممكن، كما كان الحلاج يوماً يدور نحو الأعلى. هذا الدوران الارتقائي يحدّ الخط المستقيم الزمني الذي يبتذل المعنى في حضور الأمم وتشكلها على أنها نتيجة لموروثها وفقط، وتنظر للكون في انحنائه ودورانه المرتقي للأعلى، حيث الخير والسلام والمحبة والمعرفة كفعل وجود، وهذا مختلف كلية عن الهيمنة والإخضاع والسطوة التي نعيشها اليوم.
العقلانية التي نترقب حضورها اليوم تعني: الفاعلية والمسؤولية والجدارة، وهذه تعكس عمق الفكر الكوني في وحدة وجوده. الفاعلية في تحقيق المصالح العامة، لا مصلحة جهة على حساب البقية، والمسؤولية عن الموقف والفعل الخاص والعام، لا إلقاء المسؤولية على الآخرين وكأنهم شياطين ونحن ملائكة، والجدارة استحقاق الوجود الممكن بالعمل والمعرفة. وقد أفلح من جمع بين أطرافها، في مقابل كل من يحاول هدم معطيات وجودنا المحلي ومن خلفه الكوني، مقابل مصالح مادية مستفحلة حدّ الغطرسة، وتنصّل من مسؤوليات السلم والعدالة، والجدارة التي تتقنها القوة وحسب.
سوريا ثورة شهد العالم على ولادتها مع بواكير حملها، وكذلك كان "الله"، وأيضاً كانت ثقافة "النفس الأمارة بالسوء" ذات غائية مفرطة بالذاتية في جني نتائجها والتسرّع على خطف شعلتها بغية مكاسب سياسية آنية، طالما حذر منها خط العقلانية وإلياس أيضاً، حيث تحقق الإمكان الثوري كفعل تغييري على مستوى المجتمع والأمة وتنقله لمستويات الدولة الأمة، الدولة العصرية، دولة الحق والقانون حسب اجتراح "أبو حيان" جاد الكريم الجباعي المتابع مسيرة إلياس بارتقاء وتقدم أيضاً. "النفس الأمارة بالسوء" هي مقولة إلياس ذاتها في نقد فساد الأمة في فكرها وأخلاقها واندراجهما في عمل سياسي، هو ذاته العمل الذي مارسه الغالبية في الثورة مستعجلين جنيها السياسي قبل توضعها المعرفي والقيمي والكوني، فكان ما كان من انتكاسات وارتكاسات ساهمت في تأخر حسمها لليوم، بينما كان يمكن الحصول عليها كحق عام بعد أن تحقق الثورات نتائجها واستحقاقاتها، وكأنه قصر النظر المعرفي البشري.
الفكر الكوني، العقلانية في ذاتها، النقد والمنطق والمعرفة، هو إنتاج لحظة اللقاء والتزاوج بين نظرية المعرفة بعمقها الفلسفي والأخلاقي مع نظرية العلوم وتخصصاتها المتعددة، تلك الوصلة الفعلية التي دشّنها ديبرولي وفيزيائيو القرن العشرين في مثنوية الطبيعة المادية/ الموجية، والتي تقابل معرفياً جدلية المادة/ الروح التي تحدّث عنها المرحوم إلياس مرقص في نقد العقلانية العربية، تلك العلاقة التي تشترط المعرفة العلمية بوجود حدين مشروطين معاً في شكل الوجود، كل منهما يلجم الآخر من الشطط، فلا تصبح الحياة مجرد مادة فقط، ولا هي روح لاهوتية وفقط، بل ثمة تبادل معرفي، جدل وصيرورة؛ وأيضاً هذان الحدّان ليسا متناقضين ومتفانين مثنوياً، بل مولدان معاً لجمل الحياة الأخرى في شروط الزمان والمكان. فـ"المطلق يوحد المقولات، يقيم وحدة الضوء والمادة والفضاء والحركة والزمان، يؤكد الدائرية، الكون مليء بالمادة والمادة مليئة بالفراغ"، حسب إلياس مرقص في "نقد العقلانية العربية".
اليوم، ثمّة إمكان عقلي، غير منظور في المحيط الطبيعي للإنسان، لكنه حاضر بكل تجلياته. فعند استحالة الواقع لجملة من المسلمات غير قابلة للشك، للتغير، ولنقل للزحزحة عن مركز توازنها أو مركزية وجودها في الكون، فستكون النتيجة نفي وهيمنة وتغوّل، اجتثاث لأية رؤية خلافها، وتقيم عالم الحرب والقتل بعد عالم الأصنام المعرفية، من "الآلهة" البشرية كقادة أشد كرهاً من النازيين. اليوم مهمة العقل أصعب في نقل هذا الممكن لحيز الواقع. وعودة إحياء العقلانية التي مثّلها إلياس مرقص، الشخص الذي صنّفه مركز دراسات الوحدة العربية فيلسوف العرب في القرن العشرين، ضرورة وجود محلية وعالمية. ونقد فكره أيضاً هي وفاء لهذا الخط وللعقلانية وللخير والسلام بذات الوقت، إذ ما زال حضور إلياس المعرفي والموسوعي والجدلي في عالم الفكر وفي طيات وبطائن اللحظة الحالية قائمٌ، لأنه الخط الممكن، بل ربما الأوحد لتجنّب أهوال ما قد يحدث عالمياً، وهذا موضع يستّع معرفياً ونقد بآن، إنه قول يجب أن يكون ما بعده الكثير.
ليفانت - جمال الشوفي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!