-
الوجود الكردي في سوريا : جزيرة الكنز
كما تنبعث العنقاء من الرماد، لتعود إلى الحياة بعد الاحتراق، هكذا يتجدد الحراك الكردي في سوريا، إذ رغم كثرة العداوات صوب القيادة الكردية في منطقة الإدارة الذاتية، سواء من قبل الأتراك أو المعارضة المحسوبة على جهات راديكالية متطرفة، ورغم القوة العسكرية التي تتمتع بها تركيا وحلفائها في سوريا، ورغم جميع المحاولات الإيديولوجية الشوفينية الهادفة لمحي الكرد عن الخارطة العالمية والمحلية، حتى محاولتهم قطع أسباب الحياة ، كالماء، لكنه، ومهما حاول الخصوم الإنكار، لا يمكن تغطية الشمس بالغربال، تبقى هذه المنطقة، الخاضعة لسلطة الكرد، متميزة إلى درجة الإبهار، حتى في زمن الحرب، مليئة بالحيوية والحراك، إلى حد كبير يمكن اعتبارها بوابة الحل الآمن في سوريا.
واقعياً، لا يحظى الكرد بدعم حقيقي كما يعتقد خصومهم، بل يمكن القول بأنه ليس للكرد صديق واضح وثابت، إنما يبحث هؤلاء الحلفاء من وقت لآخر، عن مصالحهم التي يرون بأن الكرد قادرون على تحقيقها. حين انتشر المدّ الداعشي في سوريا مثلاً، تم الاتّكاء على المقاتلين، بل والمقاتلات الكرديات، للقضاء على هذا الوحش المدمّر الذي راح يلتهم أمن العالم برمته، وبعد النجاح الذي حققّه الكرد في تخليص العالم من شر الدولة الإسلامية، قام الأمريكان بسحب أجزاء من قواتهم في المنطقة، متخلّين عن الكرد.
لم تكن هذه ليست أول مرة يتم فيها التخلي عن الكرد، ولكن المصالح التي تخضع لحسابات العقل والمنطق، سرعان ما حرّكت مجدداً أجندات الأميركان ليعقدوا اتفاقات اقتصادية هذه المرة، مع الأطراف الكردية، كما حصل في اتفاقيات النفط الأخيرة مع قوات سوريا الديمقراطية.
اليوم، يحدث تغيير جديد في الموقف الروسي من الكرد، حيث رحبت روسيا ورعت توقيع مذكرة تفاهم بين مجلس سوريا الديمقراطي وحزب الإرادة الشعبية ، الأمر الذي يتوجب وفقه على جميع الجهات المنتقدة للقوات الكردية، أن تفتح النوافذ المغلقة في أدمغتها، وفهم أسباب التغييرات في المواقف الدولية، صوب الوجود الكردي.
من هنا ربما، ينبغي على من يراقب المشهد ويتأمله دون تشنجات مسبقة، إعادة حساباته الشخصية، وفهم ميزات الوجود الكردي في سوريا، وبناء علاقة إيجابية معه.
التجربة الكردية : جزيرة الكنز
منذ أيام فقط، عاد أحد أصدقائي الفرنسيين من "روجافا". لوران صاحب المكتبة الذي ربطتني به صداقة الكتاب، التقى هناك بكاتب فرنسي يعتبر الكرد ملهميه في الكتابة، هناك أيضاً، في هذه البقعة التي تجذب " الآخرين" بسبب خصوبة التعدد الثقافي، واختلاف الصورة النمطية المشكّلة عن الشعوب الشرقية الإسلامية، نشطت العديد من المشاريع الفنية، من أفلام يتم تصويرها في روجافا، ومهرجانات ثقافية وتبادلات علمية على مستوى الجامعات والمؤسسات الأكاديمية ...
لقد برزت أسماء نسوية في الحقلين السياسي والعسكري، لتتحول أسماء مثل هيفرين خلف، أو بارين كوباني، أو إلهام أحمد، إلى نماذج عالمية ينظر إليها الآخر بإعجاب وتقدير، الأمر ذاته، أي وجود المرأة في الساحة، هو المتسبب كثيراً إلى درجة التشنج، والمبالغة في الكراهية صوب الكرد، حيث صورة المرأة النمطية، خاصة في الأداء السياسي في فترة الحرب، هي المرأة السلبية التابعة، ويمكن مراجعة أداء النساء لدى فريق النظام، أو لدى أطراف المعارضة، للتوصل إلى نتيجة عدم العثور على نموذج لامع لدى هذه الأطراف، وهذا ليس ناتجاً عن قلة النماذج النسوية الفاعلة والمتميزة، بل بسبب الهيمنة الذكورية لدى هذه الجهات، وبطريقة واضحة أكثر لدى أطراف المعارضة، التي لم تتخلّص من إرثها الذكوري القديم في التقليل من قيمة المرأة وعدم الإيمان بشراكتها وبقدراتها.
بغض النظر عن الموقف من أداء المرأة عسكرياً وسياسياً ، و مكان المرأة في الحرب، فإن المجال لا يتسع هنا لمناقشة الدور الطبيعي لأداء النساء، طالما نحن في حالة حرب تفرض استثناءات وجودية : تهدف إلى حماية النوع البشري في نهاية المطاف وتبرر أحياناً الخروج عن القواعد الطبيعية.
إن تأمل هذه التجربة إذن، يقدّم لنا نموذجاً من التنوع الثقافي ،والتعدد اللغوي، حيث يتقن أغلبية الكرد اللغتين العربية والكردية معاً، حتى الذين لم يذهبوا إلى المدارس، وكذلك التعدد المذهبي والديني" الإيزيديون الكرد مثلاً"، وعلوّ المصلحة القومية " بالمعنى الوجودي الأقلوي أكثر منه بالمعنى الإيديولوجي".. وهذا ما يجعل من هذه المنطقة حلماً جذاباَ للتعرّف على أنماط العيش والتفكير واختبار القدرة على اكتشاف مناطق فكرية في دواخلنا، وفتح مخيلاتنا وأبوابنا النقدية الذاتية، صوبنا وصوب الآخر..من هنا، فإن تأمل هذه المنطقة وأداء أفرادها، بل وقياداتها، وتحليل خصوصيتها، هو فرصة لكل الرافضين التاريخيين للوجود الكردي في سوريا، بالمعنينن الوجودي والسياسي، لامتحان الذات وقدرة أحدنا على اكتساب مفاهيم جديدة، وطرق تفكير مختلفة، مدنية وحديثة تنسجم مع أفكار العدالة العالمية والتنوع الثقافي والتعرّف على الآخر..
روجافا بهذه المواصفات هي جزيرة الكنز التي لم تُكتشف بعد، وهذا دور النخب العربية والكردية ، لتأسيس مواقف فكرية وبناء نظريات جديدة حول الهوية المتجددة، و خصوصية هذا النضال الوجودي الشبيه بأساطير سيزيف والعنقاء وإيزيس وغيرهم، الذين يولدون عشرات المرات، في رؤية مشجعة على الأمل والنظرة الإيجابية للحياة، إذ ينهض الفنيكس الكردي، أو القفنس بالفارسية، بعد كل قصف أو محاولة إبادة، ليعقد الدبكات و يمسك بالطنبور ويغني، وهذا للكلام ليس مجرد مجازات فنية، بل تمثلات حقيقية، لشعب حوّل نضاله السياسي إلى أداء فني، يمكن ملاحظة أثره في الموسيقا الكردية، في الشعر الكردي، وباقي الفنون.
من هنا يتأتى مفهوم الكنز، بمعناه المعرفي لا المادي، حيث أهم تمثّلات هذا الكنز، مساعدة الخصوم ، على التخلص من الكراهية والشفاء من سموم التعصب المسبق، لنكون أمام مشهد مختلف، نراه بأعين واقعية، ترى كنوزا ملقاة بيننا، ونحن نجهل قيمتها، وقيمة أنفسنا.
مها حسن
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!