-
العلاقات الروسية التركية.. تعاون طويل الأمد رغم التناقضات
وبدأت روسيا وتركيا صفحة جديدة من التعاون التقني والاقتصادي مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى سدّة الحكم في روسيا عام 2000، ووصول حزب العدالة والتنمية في العام 2002 إلى السلطة في تركيا.
خيّم قبل مؤتمر القمة فتور بالعلاقات الروسية – التركية، وظهر واضحاً في سوريا عبر القصف الواضح من الطيران الروسي في مدينة إدلب وريفها وريف حلب الشمالي، حيث نفّذ الطيران الروسي نهار الأحد 26/9/2021 غارات جوية على معسكر يتبع لـ"الجبهة السورية للتحرير، في الجيش الوطني السوري".
وذكر المبعوث الدولي "غير بيدرسون" في إحاطته حول سوريا بتاريخ 28/9/2021 في البند الخامس "ففي إدلب، نزح عدد كبير ممن كانوا قد عاودوا إلى منازلهم في جنوب المحافظة، على خلفية استمرار القصف والصواريخ وزيادة الضربات الجوية، وسط أنباء عن سقوط قتلى بين المدنيين، وقد تركزت العديد من الضربات جنوب الطريق الدولي m4، لكن هناك ضربات في قلب منطقة خفض التصعيد، بما في ذلك ضربات مقلقة بالقرب من مخيم النازحين".
وفي البند السادس جاء أنّ "هناك مصادر قلق متعددة في أماكن أخرى في سوريا: القصف المستمر والمناوشات بين الجماعات المسلحة غير الحكومية والجيش التركي في منطقة الشمال الغربي وريف حلب الشمالي، وتقارير عن زيادة الهجمات بطائرات تركية مسيّرة عن بعد داخل الأراضي السورية".
إن المصالح التركية والروسية في سوريا تطلبت من القمة بين بوتين وأردوغان، أن تبحث عن حلول للخلافات الميدانية على الأرض السورية، وفق اتفاق (مارس/ آذار) 2020، نحو حل نهائي ومستدام، يعزّز أسس الحل من قبل الدولتين الذي تتبناه روسيا وتركيا.
فالطرح الروسي يهدف لفتح الطريق أمام مرحلة انتقالية لا تستبعد الأسد عن خارطة الحل والتسويات التي ستشمل الهدنة الكاملة على الجبهات، وتسريع الحوار السوري-السوري بضمانات أممية (روسية، أمريكية، تركية، عربية، وأوربية)، وتشكيل لجان عمل وطنية تشرف على تنفيذ المرحلة الانتقالية مع الاستفادة من النموذج الليبي، الذي نجح حتى الآن في تقديم صيغ الحوار على التصعيد والحسم العسكري، خصوصاً أن الرئيس بوتين تحدث عن تصور أممي طرحه بيدرسون عن الشق السياسي في العملية التفاوضية السورية التي أساسها مسار جنيف.
إن ما جرى في محافظة درعا البلد عزّز من الحضور الروسي في المنطقة الجنوبية، وحقق ما هو مطلوب، أردنياً وإسرائيلياً، في محاولة إبعاد العناصر الإيرانية الميليشياوية والمتحالفين معها من السوريين المسلحين والجيش، عن الجنوب السوري، وهذا ما أكدته زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، لابيد، لموسكو، في متابعة العلاقات الإسرائيلية الروسية على ما أسسه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، نتنياهو.
فالنجاح الذي حققه الحضور الروسي في الجنوب، عملت الدبلوماسية الروسية على توظيفه في الشمال الغربي مع الرئيس أردوغان، بحيث يعزز من حضور النظام، وإبعاد الجيش التركي وحلفائه من الجيش الوطني السوري نحو شريط حدودي، على غرار الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل الذي كان يشرف عليه سعد حداد.
فالقمة التركية الروسية بحثت بوضوح وشفافية تفاصيل الملف السوري بكل دقائقه، على أنّ ما يقلق حكومة أردوغان شكّل الحل التفاوضي السياسي في سوريا، وخوف أنقرة من استعداد موسكو من طرح تسوية سياسية نيابة عن الكثيرين من المتدخلين في القضية السورية بعد ما حصلت على التفويض اللازم من قبل أكثر من طرف محلي وإقليمي، خاصة أنه يسود اعتقاد واضح في المجتمع الدولي أن الوجود الأمريكي في سوريا، على قلته العددية، سوف تقوم إدارة الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، بالانسحاب من الأرضي السورية في الشمال الشرقي، وتترك حلفاءها من الإدارة الذاتية (مسد) و(قسد) في مواجهة احتمالات مجهولة، لذلك تلعب موسكو دوراً كبيراً في فتح الحوارات الكردية مع النظام، بحيث يصبح الطريق معبداً لاقتراح حلول (سياسية وإدارية) قابلة للحياة بين الطرفين، ومع الأتراك، وذلك ما عبرت عنه الرئيسة التنفيذية لمسد "إلهام أحمد"، في مؤتمر استضافة بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في العاصمة الأمريكية، إذ أكدت استعداد قوات سوريا الديمقراطية للحوار مع تركيا وحل كافة الخلافات معها بالطرق السلمية والحوار.
وطالبت بالمقابل ضمان معالجة ملفات مرتبطة بالشعب الكردي والأرض السورية المحتلة من قبل تركيا مثل (سري كانية، رأس العين)، تل أبيض وعفرين، ودعت المجتمع الدولي لضمان حوار منفتح وشامل بين الكرد، والحكومة التركية، لافتة إلى قدرة مثل هذا التفاهم على إرساء استقرار وأمان بعيد المدى في المنطقة.
وأضافت "أحمد" أنّ مسؤولي الإدارة الذاتية يكررون عدم معارضتهم لأي حوارات تصب في مصلحة الحل السياسي في سوريا، وأنّه من الضروري تعاون كل من أمريكا وروسيا في مسألة الحوار مع النظام ودفعه للقبول بإشراك أطراف سياسية أخرى، وتعهدوا في الإدارة الأمريكية بالاستمرار في الالتزام بالتواجد في شمال وشرق سوريا، على عكس ما أشيع بعد الانسحاب من أفغانستان.
إن المصالح والمنافع المتبادلة بين روسيا وتركيا هي التي تحكم العلاقة للوصول إلى حلول وسط بشأن القضايا الخلافية، وتقديم تنازلات تكتيكية، مقابل مكاسب استراتيجية بعيدة، وبناء شراكات اقتصادية وتقنية مستقرة لا تتأثر بأي تطورات داخلية، ولا تخلط فيها الأوراق الإقليمية، وفي مقدمتها الطاقة، حيث يحظى خط "السيل التركي" بأهمية استراتيجية لهما في الحفاظ على مكانة روسيا كأكبر منتج ومصدر للنفط والغاز في العالم، والمشاركة في شبكات نقل الطاقة التي تمثل بدائل محتملة أو منافسة للطاقة الروسية بالنسبة لأسواقها، لا سيما أوربا، من خلال الاستثمار المشترك.
يتزامن هذا مع تطلع تركيا لأن تصبح دولة عبور رئيسية لنقل الطاقة من بحر قزوين والقوقاز والشرق الأوسط إلى أوربا، وأبرزها خط "باكو- تبليسي- جيهان" لنقل النفط من أذربيجان لأوربا عبر ميناء جيهان التركي، والذي بدأ يضخ النفط إلى الأسواق العالمية في (أيار/ مايو) 2006، وانضمت كازاخستان في العام نفسه للخط لنقل نفطها إلى الأسواق العالمية، ومشروع تاناب، الذي يتضمن إقامة خط أنابيب عبر الأناضول لنقل الغاز الأذري إلى أوربا، وشهد التعاون الروسي- التركي في مجال الطاقة طفرة، حيث تمدّها بنحو (60 بالمئة) من احتياجاتها من الطاقة، إلى جانب الخط الغربي لنقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا ورومانيا وبلغاريا، وخط أنابيب الغاز العابر للبحر الأسود "السيل الأزرق"، الذي تم افتتاحه في العام 2005، وأنبوب النفط سامون- جيهان، الذي يمر من شمال تركيا إلى جنوبها التفافاً على مضيقي البوسفور والدردنيل، لينقل النفط الروسي من حوض البحر الأسود إلى الأسواق الأوربية.
كما تم تدشين مشروع "السيل التركي"، ويتضمن خطي أنابيب لفتح الغاز من روسيا إلى تركيا وبعض دول أوربا عبر قاع البحر الأسود والأراضي التركية وتبلغ قدرته الإجمالية (31,5) مليار متر مكعب سنوياً، حيث يبلغ كل أنبوب (15,75) مليار متر مكعب من الغاز سنوياً.
وسيغذي خط الأنابيب الأول، الذي يصل طوله إلى (930) كم، تركيا، بينما يلبي الخط الثاني، الذي يعبر الأراضي التركية وصولاً إلى حدودها من دول الجوار بطول (180) كم، احتياجات دول شرق وجنوب أوروبا.
وقد أعلنت شركة "غاز بروم الروسية" في 19/11/2019، عن ملء خطي الأنابيب في مشروع "السيل التركي" بالغاز، بدءاً من المنشآت الساحلية في مدينة أنابا، وصولاً لبلدة فيكوي على شواطئ تركيا، التي انطلقت بشهر (أيار، مايو) من العام 2020، عبر تدفق الغاز بواسطة الخط الآخر من بلغاريا إلى صربيا، وهذا ما يجعل تركيا نقطة ارتكاز وHUb"" لضخ الغاز الروسي إلى أوربا، بالإضافة إلى اتفاق على تشييد محطة "أكوي" للطاقة النووية في تركيا.
وبلغ حجم التبادل التجاري بين موسكو وأنقرة في العام 2018، (25,7) مليار دولار، لتصبح روسيا ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا، والأخيرة أكبر خامس شريك تجاري لروسيا، واعتماد عملتي البلدين الروبل والليرة في المدفوعات والتسويات بينهما، كما يسعى الاتفاق لربط البنوك والشركات التركية بالنسخة الروسية من نظام سويفت للمدفوعات.
من جانب آخر، يتصدّر المواطنون الروس قائمة السياح الأكثر توافداً على تركيا خلال العام 2018، وفقاً للإحصاءات الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة التركية، حيث بلغ عدد السياح الأجانب الذين زاروا تركيا، خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2018 (32) مليون سائح، جاء في المرتبة الأولى السياح الروس بعدد (5) ملايين و(120) ألفاً و599 سائحاً، بزيادة مئوية تقدر بـ(16,09) بالمئة.
ورغم كل الضغوط الأمريكية التي مارستها أكثر من إدارة، سواء ترامب أو بايدن، إلا أن أردوغان وحكومته رفضا هذه الضغوط، وتسلمت حكومته منظومة صواريخ "أس-400"، بموجب عقد أبرم في العام 2017، بين روسيا وتركيا، وقامت الإدارات الأمريكية بتعليق مشاركة تركيا في برنامج المقاتلات "أف-35"، وفرضت عقوبات قانون "كاتسا" الخاص بمواجهة خصوم الولايات المتحدة، واستمرّت تركيا في رفض تقديم أي تنازلات، وواصلت التعاون مع روسيا في صفقة جديدة من صواريخ "أس-400".
أخيراً، إن العلاقات التركية - الروسية انطلقت من معادلة مصالح استراتيجية مهمة وحيوية للبلدين، ستستمر بالتعاون والتطور بينهما، ما دامت المنافع المتبادلة في العلاقات الدبلوماسية بين الدول، لأن ليس هناك عدو دائم، ولا صديق دائم، وإنما هناك مصالح تحدد تقدم الأصدقاء والخصوم.
ليفانت ماهر إسماعيل
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!