الوضع المظلم
الإثنين ٠٨ / يوليو / ٢٠٢٤
Logo
العبث السياسي والاعتدال
باسل كويفي

عادة ما يشهد تاريخ الشعوب والأمم محطات تاريخية مفصلية، هي بمثابة مفترق طرق في حياتها، وقد يترتب على ذلك تحولات مصيرية، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ستكون لها آثار واضحة على حاضر ومستقبل أبنائها، وقد تتطابق مع ما يجري في منطقتنا الآن، إطلاق الصين مبادرتها في التسوية المقترحة لوقف الحرب في أوكرانيا.

تضمنت في الفقرة الأولى -وأعتقد أنها تصلح للعديد من التسويات السلمية الممكنة في منطقتنا الأوسطية- "احترام سيادة كافة الدول، يجب الالتزام الصارم بالقانون الدولي المعترف به عالمياً، بما فيه مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ويجب ضمان سيادة الدول واستقلالها وسلامة أراضيها بخطوات عملية. تكون كافة الدول متساوية، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، قوية أم ضعيفة، غنية أم فقيرة، ويتعين على كافة الأطراف العمل سوياً على صيانة القواعد الأساسية للعلاقات الدولية والدفاع عن العدالة والإنصاف الدوليين. ومن الأهمية انطباق القانون الدولي بشكل متساو وموحد، ولا يجوز اتخاذ معايير مزدوجة".

ونجحت جهودها في الاتفاق السعودي - الإيراني، وتنعكس مساعيها إيجابياً على الاقتصاد العالمي في الحدّ من هيمنة الدولار الأمريكي، وتعزز دورها في ريادة مشروع "طريق الحرير" الذي يعزز التنمية بمجالاتها المتعددة في دول عديدة.

وقد يكون المشهد السلمي والتسويات التوافقية بين العديد من دول المنطقة محلياً وإقليمياً ودولياً، قد أيقظ غريزة الحرب عند المستفيدين من بقاء الحال (الستاتيكو) الذي يحقق مصالحهم وأولهم الكيان الصهيوني.. فبعد التوافق في اليمن والانفتاح العربي والدولي على سوريا، اندلعت الحرب في السودان وهو أمرٌ مقلقٌ وخطير كونه يهدد الاستقرار والأمن المحلي والإقليمي ويدفع نحو إعادة التوترات التي تشهدها المنطقة.

وباعتقادي، إنه لا بديل عن مسار الحوار للتوصل إلى حل سياسي يجنب السودان المزيد من المعاناة ويعيده إلى طريق الانتقال السلمي والدستوري، مما يتطلب وقفاً فورياً لإطلاق النار وانخراط إيجابي في محادثات جادة بين كافة الأطراف، بمساعدة عربية فاعلة وإيجابية لتخطي هذه الأزمة، وبما يتوافق مع دعوة قوى الحرية والتغيير الديمقراطي وجميع القوى السياسية والمدنية في السودان إلى وقف إطلاق نار فوري، ويحفظ وحدة السودان واستقراره وإنجاز المطالب الشعبية السلمية، وبما يمهد الى تشكيل سلطة مدنية انتقالية من جميع القوى المدنية السودانية.

إن أفضل طريق يمكن سلوكه بناء على التحولات الدراماتيكية، التي تعقب عملية التغيير يكمن في مفهوم العدالة الانتقالية، ومعالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان، بهدف الوصول إلى مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية في مجتمعات تدعم وتعزز الاستقرار والأمان والسلم الاجتماعي.

من زاوية أخرى، نشهد حالياً تغيّراً ملحوظاً في موازين القوى في العالم بسبب تحالفات اقتصادية وسياسية برزت في الأعوام الأخيرة، وقد تشكّل فرصة لإعادة الحسابات ولخلق توازن اقتصادي، مالي وسياسي بين مختلف الدول، تتحقق فيه مصالح ومنافع مشتركة للجميع.

حيث يتوضح جلياً أنّه ليس من مصلحة أمريكا سيادة السلم والسلام الدوليين أو أن تحل أي مشكلة في العالم، لكن من مصلحتها أن تُمسك بخيوط المشكلة وتحرك هذه الخيوط، حسب المصلحة القومية الأمريكية (من تصريح كسينجر).

كما برزت في الآونة الأخيرة تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون خلال زيارته إلى الصين، وهي من أهم التغيرات في السياسات بناء على ما تقدم "الاستقلال الاستراتيجي" وهي قفزة في المجهول بين الواقع والخيال.

باعتقادي، جميع المصالحات والاتفاقيات تجري في سياق متصل، حيث انحسرت وتنحسر محاور الصراع الأصولي والطائفي في منطقتنا نحو محور الاعتدال عامة والاعتدال العربي بشكل خاص، فالثبات في السياسة جمود والجمود يعيق التطور والتفكير خارج الصندوق بالرؤية والإرادة الجادة.

إن تأطير الاعتدال بنفي الإكراه، الذي يجبر الإنسان على عدم خوضه في بناء ذاته وبناء تجربته الذاتية بالاقتناع والفهم والوعي، ومن معاني الاعتدال تحقيق التوازن عامة وسلوكياً وأخلاقياً خاصة، وعدم التطرف والانحياز، والتطور في الحياة والعمل والتعلّم، وطلب وتعزيز العدل، وعدم التجاوز على الغير، والاستقامة.

في بلادنا الحبيبة، لم يُكتب الكثير عن المثقفين ومسؤولياتهم ومساهماتهم الفكرية والتغييرية والنقدية، مما له ارتباط بالشخصية والسلطة والتخلف الاجتماعي والسلوك السياسي والتعصب، وكلها مشكلات بنيوية أعاقت تنمية المجتمع واستقرار الدولة وساهمت في تغوّل السلطات، وسيطرة علاقات القوة على الدولة، وانخفاض انتاجية المجتمع وسوء الأداء والعيش الاستهلاكي على الريع الخدماتي، وتراجع مؤشرات التنمية والقلق الدائم على المستقبل.

يعود أبرز مشكلات الثقافة والمثقفين وتراجع أدوارهم إلى ظاهرة تصنيف المثقف، وفقاً لمنحدره الطبقي والاجتماعي وانتمائه السياسي، وربما المكاني والمذهبي، يربط الكثير من الباحثين بين المثقف ونشوء الطبقة الوسطى، ويتواصل الجدل في الوسط العلمي والثقافي بين تدهور دور المثقف وبين تراجع الطبقة الوسطى، ذات المصلحة في الاستقرار السياسي والحرية الاقتصادية والنظام الديمقراطي التمثيلي المجسد لمصالح القوى المجتمعية، كان متوقعاً أن يستعيد المثقف النقدي دوره لكن شيوع الاحتراب السياسي جعل الدفاع عن الوجود والبقاء قيد الحياة أولوية حياتية لدى العديدين ، في هذه الأحوال يبدو المثقف باحثاً عن دور غير متاح له، إنه يعيش اغترابه النفسي والواقعي والعملي بين الوظيفة والدور المفترض، وبين تقلص مساحات الفعل والتأثير فهو محاصر بين حزبية راسخة غير مرئية، وبين إمكانات شحيحة ومساحات مغلقة، أخطرها انغلاق الوعي الاجتماعي ، لدينا مشكلات كبرى وكبيرة تبتدئ في أصل العلاقة بين المواطن والدولة وتمر بالهوية والأحزاب، ووجهة المجتمع المستقبلية وأمن البلاد وتنميتها بالاستدامة وترسيخ مبدأ ارتباط التنمية بالتحول الرقمي والاقتصاد الأخضر، وطرق اقتسام السلطة والثروة وتوزيع الدخل وبناء الإنسان والثقافة والتعليم وتكوين الرأسمال الثقافي، وعلاقة كل ذلك بالقوانين والمؤسسات والإدارة والتخطيط وقيادة العملية السياسية التي تنبثق منها رؤية السياسات العامة، تتحول فيها الصراعات والحرب الباردة إلى سلام دافئ واستقرار هانئ باعتبارنا حلفاء ولسنا أتباع ، فالفاشل يبحث عن أسباب الفشل خارج كيانه ، بينما عليه ان يجتهد بداية من ذاته.

وكما قال بول نيزان في كتابه كلاب الحراسة: "خيانة المثقفين تكون في الصمت وعدم الالتزام والاكتراث بقضايا المجتمع والحياة الحقيقية. المثقفون مطالبون بوضع موهبتهم وشهرتهم في خدمة قضايا أكثر عمومية والالتزام بالنضال ضد المظالم".

المثقفون هم أكثر شريحة اجتماعية قادرة على الخيانة، لأنهم أكثر شريحة قادرة على تبرير الخيانة.

كل عام وأنتم بخير بمناسبة أعياد هذا الشهر نيسان/ أبريل، وختامها عيد الفطر السعيد، وأرجو أن تدوم الأفراح والأعياد والسلم والأمان في بلادنا وللإنسانية جمعاء.

 

ليفانت - باسل كويفي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!