-
الشعب الإيراني والمؤامرات المحيطة به (الجزء الثالث)
-
النظام الإيراني يلوذ بنزعته الانتقامية
تزامناً مع مرحلة التصعيد التي يتبعها النظام الإيراني في مواجهة الاحتجاجات الشبابية في الداخل، ركز النظام على التصعيد تجاه الخارج وتوجيه رسائل تنذر بالانتقام مِمّن اتهمهم بدعم حركة الاحتجاج داخل إيران، وأما رسالته الأساسية التي يحاول التذكير بها على الدوام تبريراً لقمعه المفرط للثوار العزل على أرضية الشارع فتتمثل في الهجمات الصاروخية الكثيفة والمباشرة المُطلقة من الأراضي الإيرانية مستهدفة الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة داخل الأراضي العراقية في إقليم كردستان العراق؛ ليقول من خلال رسالته هذه بأن هذه الانتفاضة هي نشاط لانفصاليين وإنه يستهدف بصواريخه التي تنتهك بطبيعة الحال سيادة دولة أخرى يستهدف القوى الانفصالية التي تأجج هذه الانتفاضة وما ذلك إلا هروب منه للأمام من ضغوط الانتفاضة ومن عجزه الذي يدفعه إلى اللجوء إلى نزعته الوحشية الانتقامية من خلال تصعيد عمليات القمع الدامية وأحكام القتل الحكومي والاعتقالات التعسفية التي لا تفرق بين بالغ وقاصر وطفل ومسن.
وكل ذلك قد برره النظام أمام المجتمع الدولي الحر بتعبير نشاط انفصالي يقف خلفه انفصاليين يتم رجمهم بالصواريخ من حين لآخر تذكيراً للمجتمع الدولي كي لا يمارس ضغوطاً بالغة عليه ويكتفي ببيانات الإدانة والاستنكار ذرّاً للرماد في العيون، ونسي هذا النظام بقيادته الحمقاء أن الانتفاضة الوطنية الإيرانية كانت على مستوى الدولة بأكملها وشاركت فيها كل مكونات الشعب حتى أهالي مدينة خمين مسقط رأس خميني أنفسهم الذين أحرقوا بيت خميني وهو أكبر دليل على سقوط شرعية النظام حتى في عقر داره، ولم تكن في الانتفاضة أي شعار حول الفكر الانفصالي أو حتى إيماءة مباشرة كانت أو غير بل كانت هناك وحدة واضحة للعالم أجمع في أدبيات الانتفاضة التي رفضت كلا النظامين الدكتاتوريين، نظامي دكتاتورية الشاه ودكتاتورية ولي الفقيه، ونادت بانتشار شعار الموت للولي الفقيه، ولم تشهد إيران في جميع انتفاضاتها هكذا روح تضامنية شعبية وطنية توحدت على الآلام والهدف الرئيس الذي هو إسقاط النظام وإقامة جمهورية ديمقراطية غير نووية تحترم الإنسان بغض النظر عن انتماءاته العرقية أو الدينية أو الفكرية أو المناطقية.
قد يتظاهر النظام الإيراني بأنه نجح عملياً في تطويق الانتفاضة الوطنية عبر آلياته التقليدية ومنها الترويج لنظرية المؤامرة وتحميل المسؤولية للخارج لكنه في الواقع لم ينجح في إطفاء جذوة هذه الاحتجاجات التي ما تزال تشتعل وتتمدد إلى شرائح مختلفة بين المجتمع الإيراني، ولا ننسى أن هذا المجتمع لا يرفع شعارات، خاصة بالحرية والمرأة فحسب؛ بل هناك طبقات وفئات محرومة تئن من الوضع الاقتصادي وتسيطر عليها روح اليأس والكآبة، وأخرى تئنّ من الاضطهاد العرقي وأخرى تئنّ من العنصرية والتمييز، وأخرى ستنهض عليه من قلبه ومن كيانه ويدرك النظام ذلك جيداً، وبالمحصلة لا خيار أمامه سوى الاستمرار في نهجه القمعي الدموي لإخماد الانتفاضة.
الانهيار الاقتصادي يؤدي إلى تصعيد عسكري
إن سياسة “الضغوط القصوى” التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب في حينها بعد انسحابها من الاتفاق النووي الدولي مع إيران في انفجار الانتفاضة الشعبية التي عمت المدن والبلدات الإيرانية، وقد شملت هذه السياسة عقوبات مباشرة وغير مباشرة فرضتها واشنطن على الدول التي تتعامل تجارياً مع إيران، وساهمت عملياً في وقف تصدير النفط الإيراني ومحاصرة نظامها المصرفي وحرمانها من أسواقها الخارجية، وإرغام الدول التي كانت تتعامل معها تجارياً واقتصادياً في السابق على المشاركة في الحصار الأمريكي المفروض على إيران، وقد كانت هذه الاحتجاجات نتيجة مباشرة لعدة عوامل منها الانهيار الاقتصادي وعدم الاكتراث بمعاناة الناس معيشياً، والنهج القمعي وغياب الحريات السياسية، وبسبب سياسة نظامٍ يُرسل شبابه أحياء للقتال في الخارج والعودة بهم موتى في توابيت، نظام لم يستخدم موارد ومقدرات الشعب لتحسين نوعية حياة الشعب الإيراني بل سخرها لخدمة ثقافة الموت التي نشأ ويتواصل عليها النظام.
يُدرك النظام الإيراني ويخشى قوة التيار الاجتماعي الثوري المُنتفض، وقد بذل قصارى جهده كي يمنع قيامَ أيّة تجمعات جماهيرية على مستوى مظاهرات ميدان التحرير في القاهرة أوائل مراحل الربيع العربي عندما تمكّن المتظاهرون من فهم علو قوتهم الاجتماعية واستخدموها في مواجهة حكامهم، حيث استغلّ متظاهرو الربيع العربي كافة الموارد الثقافية المتاحة لديهم، وأبرزها الطقوس الدينية ومواكبَ الجنازات، للحفاظ على زخم الاحتجاجات، وكانت أهمّها صلاة الجمعة، بمواعيدها ومواقعها المحدَّدة، التي ساعدت على انطلاق أكبر التجمّعات والمظاهرات آنذاك، ومع الفارق فقد تعيّن على المنتفضين في إيران أن يلجؤوا إلى مساحاتٍ ثقافية ودينية أخرى، مثل الجنازات أو العزاءات أو الطقوس الدينية في شهرَي محرم ورمضان للتواصل في مسعاهم نحو إسقاط النظام.
وعلى الجانب الآخر، لن يتوانى نظام الملالي عن حظر حتى أكثر التقاليد الثقافية والدينية قُدسية في حال اعتبرها تهديداً له، وقد سبق له أن حظر إقامة الجنازات ومراسم الحداد، وحظرَت السلطات بعض الشعائر الشيعية في بعض الحالات، وليس هذا بالأمر المُستغرب فخميني الأب المؤسس لما أسموه بـ الجمهورية الإسلامية هو من أصدر مرسوماً يمنح “السلطة المطلقة” للولي الفقيه بما يحق له أن يتجاهل أي مبدأ أو قانون بما في ذلك الدستور أو الالتزامات الدينية مثل الصلوات اليومية "لمصلحة السلطة"، ولن يتردد الحاكمون باسم الدين في إيران في منع أي شعائر ثقافية أو دينية، ولن يترددوا في التضحية بأي قيم وممارسات يستمدون منها شرعيتهم ذلك لأنهم يعتبرون أنفسهم الهيئة الشرعية الوحيدة القادرة على تحديد ما هو مقدّس وما هو مدّنس، وما هو صوابٌ وخطأ.
انعدام الثقة هو جوهر القضية بين النظام الإيراني والشعب
هناك ضرورة لإعادة النظر في بنية المجتمع والسلطة في إيران، فمن غير الطبيعي أن تشهد هذه البلاد ثورتين منجزتين، الأولى عام 1906 المعروفة بالمشروطة، والثانية عام 1979 تلك التي قامت جموع الشعب واعتلاها خميني بدعم غربي، وقد كانت ثورة فبراير 1979 تواصلاً مع ثورة الزعيم الخالد الدكتور محمد مصدق، وما زالت متواصلة ويعيش المجتمع منذ ذلك الوقت في حالة غليان متصاعد بلغ أوجه في هذا العقد الأخير الذي يشهد إرهاصات ثورة جديدة قد تغير وجه التاريخ وتُحدث ما لم في الحسبان نتيجة تآمر النظام وقوى الاسترضاء في الغرب ضد الشعب الإيراني، ومن الرشد هنا الأخذ بعين الإعتبار مصلحة الشعب الإيراني وحالة النضج السياسي لقواه الوطنية التي تراعي في تواجهاتها الجانبين الإقليمي والدولي.
استشراف حالة الدولة
اعتقد الولي الفقيه أن الأوضاع السياسية آخذة في التدهور وأن نظام يسير بتسارع نحو الهاوية وأن الخلاص السياسي للنظام مما هو فيه إعادة هيكلة السلطة الإيرانية وتنصيب المقربين من تيار الموالاة خاصة من الضالعين في جرائم ضد الشعب فوضع “رئيسي” على سدة الرئاسة، ومحسن إجئي على سدة السلطة القضائية، والحرسي قالبيباف على سدة السلطة التشريعية وهيكل مؤسسات الدولة الأخرى بما يشتهي أملاً في خلاص وبقاء النظام، فالموضوع في واقع الأمر ليس قداسة النظام وإنما الصراع من أجل والخوف من عاقبة السقوط لذا فإن تيار الموالاة الحريص على ذاته ومصالح وامتيازاته العليا هو من يتوجب عليه حماية النظام أي حماية دوام المصالح وارتكاب ما هو مشروع وغير مشروع من أجل ذلك، وتأتي قضية خلافة “خامنئي” في الفترة المقبلة والمطروحة على جدول أعمال السياسة الداخلية ضمن الواجب فعله من المشروع وغير المشروع.
وعلى صعيد المشروع النووي لنظام الملالي هناك حالة الغموض والمفاوضات الشاقة، وما زالت مناورات العودة للاتفاق النووي بين إيران والقوى الدولية هي الخيار المفضل للطرفين؛ وذلك نظراً لحاجة إيران الاقتصادية الملحة لرفع العقوبات، ومصلحة الولايات المتحدة بتسوية هذا الملف في ظل تفاقم أزمة الطاقة وتجنب تفجر الأوضاع في المنطقة، ومن غير المتوقع أن يؤدي الاتفاق مع الولايات المتحدة إلى تراجع الشراكة الاستراتيجية بين إيران والصين، كما لن يوقف ذلك تنامي العلاقات مع روسيا، وأما إقليميا فلن ينتج عن الاتفاق النووي المحتمل تغيراً جوهرياً في أجندة الملالي بالمنطقة.
يواجه النظام واقعاً اقتصادياً صعباً لكن ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة منسوب صادراتها النفطية يُسهم في تحسين وضعه الداخلي على مستوى زمر ومؤسساته القمعية وليس المؤسسات الأخرى التي تقدم الخدمات للشعب سواء على مستوى الصحة أو التعليم ومؤسسات الرعاياة الاجتماعية أو التنمية أو دعم السلع الغذائية الرئيسة، وسيسهم كذلك في تحسين وضعيته التفاوضية، ففي حال التوصل لاتفاق نووي سيحقق النظام الإيراني مكاسب تبقي نظامه وتعينه على مواصلة قمع الشعب وستتعافى مؤسساته القمعية وميليشياته العاملة بالوكالة.
الوضع الاقتصادي
تتمتع إيران باقتصاد أكثر تنوعاً من معظم منتجي النفط الإقليميين الآخرين، لكنها تعتمد على النفط والغاز في جزء كبير من إيراداتها المالية إلا أن طبيعة بيئة الأعمال المعقدة والمخاطر المتعلقة بالعقوبات الأمريكية والقطاع المصرفي الضعيف وتقلب النظ والقوانين كلها عوامل تحول دون دخول المستثمرين الأجانب بقوة للعمل في ظل وجود النظام الإيراني.
ووفق تقديرات غربية، فإن الاقتصاد الإيراني سيعاني خلال الفترة المقبلة ما لم يتم رفع العقوبات، خاصة في ظل ارتفاع معدلات التضخم وضيق التمويل العام وارتفاع معدلات البطالة وتقييد الوصول إلى العملات الأجنبية بالإضافة إلى الاستثمار الأجنبي المحدود.
الوضع الاجتماعي
معاناة المجتمع الإيراني في ظل النظام الحاكم منذ قفزه على السلطة متعددة وبسبب تقادمها لم تتهالك تلك المعاناة بل تهالك الشعب نفسه بعد ترسخ تلك المعاناة وتحولها إلى كيان يتعاظم ولا يتراجع، خاصة في ظل عيش أفراد السلطة على أزمات المجتمع وذلك جزء من طبيعة الملالي كنظام يتعاظم على الأزمات لكن أوضاع الشعب آخذة في التدهور بدءاً من تفشي الفقر وصولاً إلى انهيار نظام الطبقات الاجتماعية حيث ظهرت طبقات جديدة في المجتمع وغابت أخرى فالطبقة الوسطى قد غادرت موقعها وانحدرت سريعا نحو الفقر، أما الطبقة الفقيرة فلم تستطع التعايش مع الفقر فذهبت مكرهة إلى ما تحت خط الفقر، أما باقي الطبقات فهناك من هو ميسور الحال في موقع الطبقة الوسطى سابقاً، وهناك الأغنياء وهناك الأثرياء وهناك واجهات اقتصادية لأصحاب الثراء المفضوح من أرباب السلطة الذين يخشون من افتضاح أمرهم.
وعلى صعيد آخر، فقد أدى سوء وفساد الإدارة وتحويل مجاري مياه الأنهار إلى مشاريع تابعة للحرس وأخرى تسليحية إلى جفاف تلك الأنهار بحيث أصبحت ممرات للراجلة والسيارات وقامت على أرضيتها في أصفهان والأهواز وقد أدى ذلك إلى تدهور كبير في أوضاع الناس المعيشية وهلاك محاصيلهم ونفوق ماشيتهم هذا بالإضافة إلى محاصرة الناس في أعمالها وأرزاقها ونتيجة لذلك اندلعت احتجاجات ومظاهرات عارمة في محافظتي خوزستان وأصفهان وتوسعت هذه الاحتجاجات وتمددت إلى مناطق أخرى وقد أظهرت تضامناً شعبياً كبيراً في جميع أنحاء إيران.
أدى إنعدام النمو الاقتصادي، والضغوط التضخمية الكبيرة، وضعف الأجور، وزيادة البطالة، وتفشي المخدرات، وتفشي الفساد الإجتماعي بسبب الفقر الشديد والعوز المُرهق، وفساد السلطة وتوجيه الموارد نحو التسليح ودعم الميليشيات إلى تعاظم الشعور بخيبة الأمل وعدم الثقة بالنظام السياسي في الأوساط الشعبية الإيرانية ومؤشر قوي لدى الشعب على تآمر النظام وحاشيته على الشعب والدولة.
ليفانت - د. سامي خاطر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!