-
السوريون والصراع على "المحتل" و"المخلّص"
أسس الصراع السوري الدائر منذ نحو عقد من الزمن للكثير من التغييرات والتبدلات في مفاهيم كانت جلية المعنى والدلالة ولو على نحو نسبي في العقل الجمعي السوري قبل تفجر الثورة وبدء التدخلات الإقليمية والدولية على حد سواء في البلاد.
فالقبضة الأمنية المتشددة والمناهج التربوية والخطاب الرسمي الحكومي، والإعلامي والتلفزيون والدراما والسينما، كلها خلقت تصوراً وتعريفاً جمعياً شبه مُتفق عليه بين السوريين في تعريف مصطلحات مثل "المحتل"، وكان من السهل على أي سوري أن يرد –في حال سُئل عن معناه- بأن المحتل هو دولة أو سلطة ما تقوم بالسيطرة على منطقة جغرافية لا تمتلكها رغماً عن أصحابها وكانت ذاكرته على الفور ستنتقل لصور المحتل العثماني ولاحقاً الفرنسي وكيفية مقاومة الثوار السوريين لهذين الاحتلالين كما كرستها المسلسلات الدرامية في الذهنية السورية تماماً، لكن السنوات الخمس الأخيرة على الأقل خلقت اهتزازاً كبيراً في هذا المفهوم ودلالاته وأصبح الحديث في هذا الشأن ينسحب نحو حمولات ومناح أخرى طارئة ومتجددة، وبات المصطلح ذاته يتبع لخلفيات مناطقية وطائفية وقومية فتعددت شروحاته وتفسيراته لكل حسب زاوية رؤيته.
الأهم من كل هذا أن التعريف الذي كان بديهياً لدى السواد الأعظم من السوريين اختفى وحل محله آخر ضبابي، غير واضح الملامح بل يمكن أن يتغير وفق الأمزجة والاصطفافات.
لقد كان الدخول الإيراني ومعه الميليشيات العراقية واللبنانية التابعة لها على خط الأزمة السورية مبكراً، لكنه جاء على شكل "احتلال خفي" للقرار السوري قبل أن يتم إعلانه في أكثر من مناسبة من المسؤولين الإيرانيين واتباعهم، ثم جاء الروس لاحقاً لمناصرة الأسد علانية، وبشكل مواز بدأت تركيا والولايات المتحدة بالانخراط في المشهد السياسي والميداني السوري.
الشريحة السورية المحابية للأسد اعتبرت ولا تزال الوجود الروسي في طول البلاد وعرضها أمراً طبيعياً، فروسيا "حليف" جاء بدعوة رسمية من دمشق، ويسهم في "تخليص" المجتمع السوري من براثن الإرهاب الذي يفتك بالبلاد، وكذلك الأمر بالنسبة لإيران لكن أمريكا دولة احتلال بالنسبة لهذه الشريحة وكذلك تركيا.
في الضفة الأخرى يسّوق "الإخوان" والجماعات المؤيدة لهم لفكرة أن تركيا تسهم في "خلاص" السنّة من نير الاستبداد وإعادة حكم الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وترى هذه الشريحة في كل من روسيا وإيران دولتين محتلتين تغتصبان سوريا وهي نفسها تسّوق بل تسهم في الحملات العسكرية التركية الثلاث والتي أعلنها الرئيس التركي أردوغان وضم على إثرها مئات آلاف الكيلومترات من الأراضي السورية بدءاً من عفرين وإدلب ومنبج وتل أبيض وانتهاء برأس العين وغيرها.
من جهتهم يبدي الأكراد السوريون رغبة علنية في بقاء القوات الأمريكية في شرق الفرات، وقاموا ولايزالون بعقد شراكات عسكرية لمكافحة داعش، ومن النادر أن تجد كردياً يعتبر الوجود الأمريكي على الأراضي السورية احتلالاً أو على الأقل وجوداً غير شرعي على أمل أن تكون هذه القوة العالمية "صمام أمان" لحمايتهم وحتى الوجود الروسي لا يزعج الكورد فقد يسهم في فرض الحقوق الكردية على دمشق وتثبيتها دستورياً.
لقد ظهرت كل التراكمات والتراكبات التي تكومت على الصعيد النفسي والايديولوجي والطائفي خلال عقود طويلة، على السطح خصوصاً بعد احتدام الصراع السوري وتحوله إلى حرب مستعرة ينفي كل طرف فيها الطرف الآخر ويسعى لنسفه تماماً، فتلوّنت المصطلحات والمفاهيم وتبدلت وباتت تُفصّل وفق مصالح الأطراف كافة ورغباتهم ووفق مصالح مصادر دخلهم ومشغليهم.
في سوريا بات لكل فئة سورية "محتلها" و"مخلّصها" الخاص بها، لكن من الضروري أن نستثني مجموعة لا بأس بها من السوريين تنحدر من كافة المناطق والمكونات السورية، سوريون لم تؤثر طبول الحروب ورقصات النزعات الطائفية والقومية والمصالح الضيقة على بوصلتهم فلا زالوا يعتبرون المحتل محتلاً، روسياً كان أم تركياً أم إيرانياً أم أمريكياً وينتظرون – رغم كل هذا الخراب –أن يحل اليوم الذي تخلو فيه سوريا من كافة الأعلام الغريبة فلا يجدوا في سماءات وطنهم سوى علم وطني واحد يتفق عليه كل السوريون، فهل ذاك اليوم قريب؟
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!