-
السقوطُ من العلوّ الشاهق...
على مدى خمسين عاماً من حكمِ سوريا، لم تعرفْ عائلةُ الأسد تمزّقاً مماثلاً، كالذي يحصل اليوم، خاصة بعدما وضع الأبُ المؤسّس قاعدةً ذهبية، تقوم على فرضِ ستارٍ من الكتمانِ على الصراعاتِ الداخلية، وعدم نشرها في الخارج، مهما كان الثمن، حفاظاً على صورةِ النظام القويّ، الذي لا يُقهر، والدليلُ على هذا، عندما حاول (رفعت الأسد) الانقلابَ على أخيه في عام 1984، فإنّ الرئيسَ الراحل لم يقمْ، على الإطلاق، بنشرِ غسيلِ العائلة علناً، ورغم سياسة التكتّم التي اُنتهجت عبر سنوات طويلة، إلاّ أنّ صراعاً جديداً من أجل السلطة والمال، بدأ ينخرُ الدائرةَ العائلية الضيقة، وهذا طبيعي في بلدٍ يتّسم اقتصادُه باللامركزية، ويسود فيه تكتيك (دبّر راسك)، وأهمّ ملامحه السيطرة على مقدراتِ البلاد وخيراتها بطرقٍ غير شرعية، وتمخّضَ عن ذلك ظهورُ غيلانِ الاقتصاد، الذين لا يحكمهم أيّ قانون، ولا تردعهم أيّة خطوط حمراء، ليتحكّموا بمفاصلِ الحياة السورية، في سبيلِ تسييرِ البلاد على هواهم، ولعلّ أشهرهم على الإطلاق، رامي مخلوف، الملقّب بـ (الوكيل الحصري لسوريا) أو (رجل المال السوري)، والذي يسيطرُ على (60%) من الاقتصاد السوري، لبراعته في جعلِ نفسه شخصية، لا يمكنُ للنظام التخلّي عنها، خاصة بعدما استفاد من قرابته بالعائلة الحاكمة، بتكوينِ ثروةٍ طائلة بصفقاتٍ فاسدة، وتخويفِ خصومه التجاريين لاكتسابِ نقاط متقدّمة عليهم، وكان والده محمد مخلوف المتشدد، شخصيةً محوريةً، بدوره، عملَ على تحويلِ سوريا إلى مجمّعٍ صناعي- عسكري، على طريقةِ المافيات.
ونحن نتكلم، حكماً، عن الصراعِ المحموم الذي اشتعل مؤخراً بين سيدة القصر الرئاسي وبين إخطبوط الاقتصاد السوري، حيث فُجُّر الصراعُ مع رفضِ (مخلوف) ممارسات النظامِ ضدّ شركاته، ما طرحَ علامات استفهامٍ حول ما يجري، وما مصير النظام وسط تكهناتٍ بتغييرٍ جذريّ في مواقف روسيا وإيران تجاه بقاء الأسد، رغم عدمِ تأكيدِ الشائعات من قبل الدولتين الحليفتين، لكنّ المسألةَ بدأتْ تأخذ أبعاداً سياسيةً واجتماعية، وأخرى تتعلّق بتوزيعِ القوى في الطائفةِ العلوية، خاصة أنّ (الملياردير المخلوع) ينتمي لأسرةٍ نافذة، تملكُ حضوراً قوياً في منطقةِ الساحل السوري، وفسّر الكثيرون تسجيلات (مخلوف) المتلاحقة، أنها رسائَلُ خفية للعلويين، في ذات الوقت لم يدّخر مؤيدوه جهداً في توجيهِ الاتهامات لزوجةِ الرئيس، عندما وصف قريبٌ له عائلتها (بـالعثمانيين الجدد)، في إشارةٍ طائفية إلى هويّتها السنية.
وحقيقة الأمر، أنّ النظامَ لم تعدْ لديه موارد داخلية، لأنّ وضعَ الثرواتِ، والمرافق التي قد تكون منتجةً، أو لها عوائد مجزية، باتتْ مقسَّمة بين الإيرانيين والروس، وبالتالي كلّ الموارد الأساسية أصبحتْ مبعثرةً، والشعبُ لم يعدْ مادةً للنهب، بحكم أنه لم يعد يملك شيئاً يستحقّ الذكر، سوى كرامةٍ مسحوقة وجوعٍ أرعن وحاضرٍ بائس، ونتيجة لهذه المعطيات، صوّب النظامُ أهدافه على الذين نهبوا البلاد على مدى عقدين من حكمه، وأولهم (رامي مخلوف)، حيث بدأ بتفكيك شبكاته منذ آب 2019، عندما اتخذ إجراءاتٍ صارمةً شملتْ (جمعية البستان)، وحلِّ جناحها العسكري، لتأتي لاحقاً الهيئةُ الناظمةُ للاتصالاتِ والبريد، وتجبرُ صاحبَ الجمعية على دفعِ مبلغ (230) مليار ليرة سورية، كفوارق تعاقدية عن شركتيه "سيريتل" و"إم تي إن"، المشغّلتين لقطاع الاتصالات، وبهذا تلقّى الاقتصادُ السوري أقوى ضربة له منذ عام 2011، أحدثت فارقاً عظيماً في أدق تفاصيل الحياة اليومية، وفي ظلّ هذا الصراع الذي لا يزال مفتوحاً، أُقيل وزيرُ التجارةِ وحمايةِ المستهلك، الذي أصدر أمراً مفاجئاً، بمنعِ شركة (تكامل) المُصدرة للبطاقاتِ الذكية، من التدخّل بتوزيع الخبز، وأثناء ذلك تقصّد (محمد مخلوف)، إحداثَ (حرجٍ) في بيئةِ النظام، عندما فضحَ هويّة مالِكِيّ (تكامل)، التي يعود جزءٌ كبير من ملكية أسهمها، إلى قريب (أسماء الأسد).
والخلافُ على ما يبدو ليس وليد اللحظة، بل هو قديم وعميق، لكنّه لم يظهر إلى السّطح إلا بعد موت والدة الرئيس الحالي، المعروفة بحاكمةِ الظّل، لتصبحَ (أسماء الأخرس) السّيدة الأولى فعلياً، والتي بدأتْ تفكّر باستبدالِ طاقمِ الاقتصاد الحاكم، من بيت (مخلوف) إلى أقاربها (أخرس ودباغ)، بدلالةِ أنّ التّوجه الطّائفي البحت في حديثِ رامي مخلوف، عبر الفيديوهات التي كان يبثّها، كان يرمي بحجارته زوجةَ الرئيس، وبشكلٍ مباشر، هي التي حاربت (ندّها القويّ) منذ البداية، بإنشاء مشاريع منافسة، في الاتصالات، ومنها شركة (إيما تيل)، وفي المشاريع الخيرية وأهمها، (الأمانة السورية للتنمية)، والتي تهدفُ إلى التهّرب من الضرائب، وذرّ الرّماد في العيون، بادّعاء مساعدةِ الفقراء وأبناء الشّهداء.
وأشيع أنّ الروسَ شاركوا في قصقصةِ جناحَيّ مخلوف، وإنهاء ظاهرته، لأنّهم في النهاية يريدون أموالهم التي صرفوها لدعمِ الأسد منذ عام 2015، وأغلبُ الظنّ أنّ الروسَ أصبحوا مقتنعين، أكثر فأكثر، بأنّه ليس من مصلحتهم أن يحملوا على أكتافهم نظاماً معزولاً، ومفلساً إدارياً واقتصادياً وسياسياً، وأنّ السيناريوهات المطروحة الآن، بدءاً من اعتقالِ (رامي)، أو تصفيته بطريقةِ الانتحارِ المعروفة لدى النّظام السّوري، لن تحلَّ القضيةَ، لأنّ النظامَ حينها لن يستطيعَ الحصول على أموالِ الملياردير الموزّعة في الخارج، وفي محاولةٍ لخلطِ الأوراق بشكلٍ أكبر، أعلنَ (مخلوف) عن بدء نقلِ ملكيةِ أسهمه في البنوك، وشركات التأمين إلى مؤسسته الخيريةِ المعروفة باسم (راماك الإنسانية)، وأوضحَ في بيانٍ نشره على صفحته في فيسبوك، أنّ مؤسسة (راماك) وقفٌ لا يورّث، وأنّ أيّ بيعٍ أو ربحٍ للأسهم سيعودُ إلى أعمال الخير.
ولا تكمنُ أهميةُ (مخلوف) في كونه رجل أعمال ثريّ، وأحد أقارب الرئيس فحسب، بل تأتي من الطائفةِ التي ينتمي إليها الأخير، وأقاربه في الساحل السوري، وهذا ما شكّلَ سابقةً لم تحدثْ في سوريا بذاتِ الزخم، خصوصاً أنّ (عملاق الاقتصاد السابق) تعمّد توجيهَ خطابهِ، وفي ثالث ظهورٍ له على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى من وصفهم بفقراء سوريا، مطالباً (بشار الأسد) بصرفِ الأموالِ التي يمكن أن يدفعها على تحسينِ أوضاعهم، والتسريبات تفيدُ بأن (الثريّ المُهمّش) اتخذ من الساحل مقراً لإقامته الحالية، وهو يسعى إلى جمعِ أكبر تأييدٍ له من الطائفة، من الفقراء والموالين، أسوةً بأسماء الأسد، وآخر صدامٍ بينهما كان حين قرّر (مخلوف) تخصيصَ سبعة مليارات ليرة سورية، لذوي الشهداء والجرحى، وبعض العائلات الفقيرة المحتاجة في كل المحافظات السورية، بدلاً من متضرّري الحرائق، لتعلن (الأمانة السورية للتنمية)، في نفسِ الوقت، والتي يرتبط اسمها بزوجة الرئيس، أنّ التبرّعات الشعبية لمتضرّري الحرائق، وصلتْ إلى ستة مليارات ليرة سورية، ما فُسّر بأنّ هذا العطاء مجرّد صورة واضحة للتنافس بينهما.
نهاية وفي ظلّ التفكّك الذي يعيشه النظام، بوجودِ روسيا وإيران، وفي ظلّ انتقادِ الإعلامِ الروسي لسلوكِ الرئيس السوري، خاصّة أنّ الفضائح التي بدأتْ تحاصرُ (أسماء الأسد)، وآخرها (فضيحة) شراء (بشار الأسد) لوحةً لزوجته بمبلغ (30) مليون دولار، إنما جاءتْ بضوء أخضر روسي، وذلك على خلفيةِ تمدّد (سيدة العرش) حتّى إلى الحصص الروسية، وعلى الرّغم من أنّ المواجهةَ بين رأس النظام وابن خاله تتعلّق بأموالِ الشعب السوري، التي نُهبتْ على مدار عقود، إلا أنّها قد تمهّد لمرحلةٍ جديدةٍ في سياسةِ الاقتصاد السوري، تلعبُ فيها عقيلةُ الأسد دوراً هاماً، لتغدو، ربما، وبلا منازع الحاكمةَ الفعليةَ للبلادِ المنكوبة.
الكاتبة: عبير نصر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!