الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
أنظر إلى العالم بعيون القصيدة
الرأي جديد


عماد أحمد: يتّفق الطبيب والشاعر الذي أكونهما على محاولة خلق المسرّة في قلوب الآخرين


قبل دخوله كلية الطب، كان حريصاً على التفوّق في اللغة العربية، وبعد أن التحق بالكلية وتخرج طبيباً، بقي وفياً لللغة العربية، ثم جعل الشعر أولى اهتماماته، وها قد بدأ يسير بخطوات أكثر من واثقة على دروب الإبداع، وبدأ ينتج لنا أدباً فيه الكثير من الجمال، وما أجمله حين يظلّ مصرّاً على خلق المسرّة في قلوب الآخرين طبيباً ومبدعاً.


ـ كيف جئت من عالم الطب إلى عالم الأدب -الشعر تحديداً- هل عالم الطب يجعل الشاعر أو الكاتب قريباً من مجتمعه.. محتكاً ومتأثّراً بأحلامه ومشاكله ومواطن ضعفه وقوته الأمر الذي يمنح الشاعر أو الكاتب رصيداً كافياً للخوض في رحلة الحرف دون أن ينفصل عما حوله، وهل عالم الإبداع العربي يشكو من داء وما هو هذا الداء وأنت الطبيب والمبدع؟


*بدأت علاقتي باللغة في سنوات الطفولة الأولى منذ تعلمت كيف أفكّ الحروف وأركّبها لأحصل في كل مرة على معنى جديد وأثر مختلف، وكان حرصي على التفوّق في العربية مرهوناً بحرصي على التفوّق الدراسي والالتحاق بكلية الطب التي كانت حلم كل الطلاب وعائلاتهم.


كان الشعر فسحة للتنفس والتنافس، ومساحة للهروب من ضغط دراسة الطب أولاً، والعمل في حقوله لاحقاً وما يزال كذلك إلى الآن.


يتفق الطبيب والشاعر الذي أكونهما على محاولة خلق المسرّة في قلوب الآخرين وقد استفاد أحدهما من الآخر بقصد أو بدونه، فالطبيب منح الشاعر فرصة أوسع للالتقاء بالناس ومشاكلهم والشاعر هذّب نفس الطبيب وقلّم أحاسيسه ليكون أكثر رحمة وهدوءاً.


أما إذا أردنا التحدّث عن أمراض الإبداع العربي، فالحديث ذو شجون ونحن بحاجة إلى بروتوكولات علاجيّة طويلة وجهود جبارة وجادة على صعد كثيرة.


ـ هل الشعر هو أول اهتماماتكِ الإبداعية؟ وماذا وجدتِ فيه؟


*بلى، هو أولها وآخرها، وإنني أربط كل ما هو جميل بالشعر، فقد أحب أغنية لكلماتها، وقد أحب امرأة لعذوبة حديثها، وقد أحب نفسي إذا أعجبتني قصيدة كتبتها.. أنا هكذا فعلاً أنظر إلى العالم بعيون القصيدة.


ـ أصدرت مؤخراً مجموعتك الشعرية الأولى الموسومة (على ساق واحدة).. ماذا أضافت هذه المجموعة إلى تجربتكِ الشعرية؟


*من المبكر الحديث عن هذا الآن.. فلتأخذ المجموعة فرصتها في القراءة والنقد أولاً، وأنتم ستجيبون على ذلك لاحقاً، ولكنها خطوة جديرة بأن تتكرر وإن جاءت متأخرة.


ـ جذوة الكتابة الشعرية لن تموت في سوريا رغم شبح الموت والخراب الذي خيّم على الحياة السورية ولتسع سنوات وربما سيستمر لسنوات أخرى، ومع هذا ظهرت أصوات شعرية جميلة على الرغم من أنّ هذه الأصوات عاشت مرارة الواقع السوري بكل تناقضاته وتعقيداته، فهل يمكن القول إنّ سورية ستظلّ ولاّدة بالشعر والشعراء وستأتي أصوات أخرى وتأخذ بالشعر نحو آفاق حداثوية جميلة؟


*يتفق الجميع على أنّ الشعر السوري أمام انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل، وربما تكون فرصة مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة والأجوبة العالقة في الحلق منذ أبد بعيد.


وأنا شخصياً أؤمن أنّ الشعر ربما يمرض ولكنه لا يموت، وأراهن في قادم الأيام على أسماء ستدهش العالم بعطائها الشعري الذي يليق ببلد قدم الحرف والعمارة للعالم منذ آلاف السنين.


ـ قصيدة النثر قيل عنها الكثير سلباً وإيجاباً؟ هناك من يقول إنّها لا تنتمي إلى الشعر لغوياً وفكرياً وإيقاعياً وبالمقابل هناك من ينظر إليها على أنّها أصعب أنواع الشعر، برأيك هل استطاعت قصيدة النثر أن تؤسس لنفسها حضوراً فاعلاً في المشهد الشعري؟


*ليست قصيدة النثر وافداً غريباً علينا ويمكن أن تجد لها جذوراً جينية في التراث العربي القديم، منذ نثر المتصوّفة في كتابات ابن عربي والسهرودي ونصوص الجاحظ والتوحيدي.


ولكن غياب المعيار الحقيقي لتقييمها ساهم في إبقاء هذا الشكل الشعري عالقاً في منتصف المسافة بين كونه شعراً أو لا، ومع ذلك أرى أنّ قصيدة النثر قد خطّت خطوة أبعد من التوقعات على الأقل.


ـ من المعلوم أنّ القصيدة لها مدلولاتها الأدبية من لغة ومعنى، فهل يجوز أن نطلق صفة القصيدة على القطعة النثرية؟


*يظلّ النصّ الشعري نصاً شعرياً وتظلّ مكوناته هي ذاتها ولا يشكل العروض إلا جزءاً يسيراً من الوزن والإيقاع، وأنا هنا أتفق مع الناقد المغربي محمد الصالحي، إذ يقول “إنّ الشعر العربي نسق كلي يستوعب عدداً لا نهائياً من الأشكال الشعرية بما فيها قصيدة النثر التي ليست سوى إمكان إلى جانب الإمكانات الأخرى”. لو نتفق على معايير تميز الجيد من الرديء أنفع من أن نختلف على اعتمادها كشكل من أشكال القصيدة العربية.


ـ ما هي العوامل التي تؤدّي إلى انحدار مستوى الشعر؟ وماذا على الشاعر أن يفعل حتى يطوّر أدواته ويوفر للمتلقّي المتعة الجمالية، ولا يقع في تقليدية مملة؟


*أهم العوامل في رأيي:

ـ انشغال الشاعر بعالمه الداخلي متجاهلاً ما يحدث حوله ومتوهماً أنّه عالم ثري إلى أن وجد نفسه تائهاً في فراغ كبير.


ـ الغموض الذي أصبح سمة بارزة في شعر هذه الأيام، وقد تجلّى ذلك في غياب الموضوع عن النص الشعري، فلا يعرف المتلقي عم يتحدّث الشاعر ويستصعب الوصول إلى الفكرة أصلاً.


ـ الانتشار الواسع الذي تحظى به الرواية العربية حتى إنّ بعض الشعراء المعروفين تحولوا إلى روائيين، وهنا يكمن السؤال الملحّ علينا، هل ابتعد الشعر أم اقتربت الرواية أكثر؟.


ـ التغير الرهيب الذي يجتاح حياتنا بكل تفاصيلها والانحدار إلى الماديّ على حساب الروح وحاجاتها والدور السلبي الذي يلعبه القسم الأكبر من الإعلام، وكما يقال “إنّ التكنولوجيا اختصرت وانتصرت”.


ـ تلعب اللغة دوراً أساسياً في نجاح النصّ وهي ملكة الأديب أو الشاعر رقم واحد، وهي ترجمة للمشاعر والأحاسيس، وصورة معبّرة عن الفكر وما يجول فيه، وركنٌ أساسي في بنية النّص الأدبي كيفما كان جنسه ولونه، أنت كشاعر كيف تراها وكيف تنظر إلى دورها في نصوصك الشعرية؟


*هذا صحيح تماماً، إذا كان النص الأدبي يستمدّ وجوده من التقائه بالمتلقي فإنّ الرسالة التي يستخدمها الأديب لهذا الغرض تعتمد في جوهرها على اللغة التي تشكل الأساس الثابت لأيّ نص.


ربما على أحد غيري أن يتحدّث عن اللغة التي أستخدمها في نصوصي، ولكنّني أحاول جاهداً أن أستعمل الكلمات المألوفة وأتحاشى العناصر غير المهمة أملاً في الوصول إلى نصّ قريب من القارئ دون الإغراق في التسطح أو الغموض.


ـ الصور الشعرية الكثيرة في النص الواحد ماذا تعتبرينها قوة أم ضعفاً؟


*يقوم الشعر أصلاً على الصورة منذ أن وجد إلى هذا اليوم، حتى إنّ الجاحظ يقول: “إنّ الشعر فن تصويري يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعرية وحسن التعبير”. وعليه فإنّ الصور الشعرية المكثّفة تتيح لك كشاعر الخروج عن المألوف والتقليدي وتبرز براعتك في ربطها برباط واحد يشكل في النهاية النص المشحون بما تريد.



ـ كمنتج للنص الأدبي.. ما رأيك بالناقد السوري، وهل لك غنى عن فعالية النقد سواء كانت مكتوبة أو مسموعة؟


*يعيش النقد الأدبي في سورية، ومنذ عقود وإلى الآن، حالة ركود انعكست سلباً على عملية الإنتاج الأدبي عموماً، فثبطت الهمم ووضعت المنتِج والمنتَج في دوامة من التشاؤم واليأس.


وفي الوقت الذي يغلب فيه الطابع التنظيري على النقد وعدم توفر دقة المصطلح النقدي، ينصب اهتمام معظم النقاد على إنتاج أدباء الصف الأول، بينما يهمل أدباء الصف الثاني والثالث، وليس جديداً أن أقول إنّ مئات الكتب التي تنشر سنوياً لم تجد إلا العقوق النقدي والإهمال، وإذا كان الأديب محظوظاً ربما يحظى بقراءة سريعة وخاطفة عن منشوره المسكين في مكان ما.


ولا يختلف اثنان على أنّ الناقد الجاد الموضوعي يعيد اكتشاف النصّ ويقدّمه للقارئ كما يفعل عالم الآثار بقطعة أثرية حين يقدّمها للعالم دون المساس بكينونتها.


ـ لماذا لم تستطع النصوص الشعرية الحديثة أن تقدّم تلك النكهة الجميلة التي في النصّ القديم؟


*أزعم أن لا أحد يملك إجابة واضحة وشافية عن سؤال كهذا، ولكنني في العموم أميل إلى الرأي الذي يربط الموضوع بعامل الزمن فالشكل التقليدي للقصيدة ظلّ سائداً ومسيطراً لما يقارب ١٥ قرناً، الأمر الذي أضفى نوعاً من القداسة والهيبة على النص القديم مما يهيّئ القارئ للتأثر والدهشة سلفاً، إضافة إلى تناول الشعراء القدامى مواضيع عامة قريبة من الناس في قوالب مألوفة.


ـ وهل القصيدة الحديثة في أزمة؟ وهل الأزمة هي أزمة قصيدة أم أزمة شاعر؟


*تكمن الأزمة الحقيقية للشعر الحديث في أنّ القصيدة مغلقة على نفسها ويلزمها منجم لفك طلاسمها، وقد قابل القارئ هذا الغموض بشيء من التراخي، وقد أسهم النقاد كذلك في تفاقم الجفاء وأزمة الثقة بين الطرفين باستخدامهم لغة ملغزة تتفوّق على ألغاز الشاعر وغموضه أحياناً.


ـ ما مدى استفادتك إبداعياً من بيئة منطقة الجزيرة التي تعيش فيها، هذه البيئة الغنية والمتنوعة، وكيف يتم تناولك لهذه البيئة في قصائدك؟


*أنا ابن هذه البيئة فعلاً..

تتدفق في عروقي ملامحها المالحة وتتشكل في روحي فصولها المتداخلة مثلما تشكلت في حاراتها وشوارعها على مرّ تلك السنوات، ولا بد أن تلتقي حين تقرأ لي بامرأة شامخة بثوبها الكودلي وهباريها أو بموال كردي عتيق أو بتنهيدة أرملة أرمنية لا تتوقف عن طبخ الذكريات على نار هادئة.


ـ كيف تصف المشهد الثقافي والأدبي في الجزيرة وخاصة في منطقة القامشلي راهناً؟


*لقد تباطأت عجلة المشهد الثقافي مثلما تباطئ كل شيء منذ بداية الحرب، ولا يتعدّى الأمر في أحسن الأحوال بعض المحاولات الفردية الخجولة هنا أو هناك، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، الناس مشغولون بلقمة العيش والبحث عن سقف آمن أكثر من انشغالهم بالكلمة واشتغالهم عليها.


ـ أخيراً، ماذا أخذ منك الشعر، أم أنّ الشعر يعطي ولا يأخذ.. وإنّه القوة التي تحوّل الضعف إلى طاقة، والحزن إلى نشوة، والألم إلى إبداع؟


النشوة التي يقدمها لي الشعر بلا نهاية.. وطالما أنّنا معاً فأنا بخير.


ليفانت _ إعداد وحوار: بسام الطعان








 




كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!