-
ما الذي حققته إسرائيل من عدوانها على غزة ولبنان؟
منذ العام الماضي، وإلى الآن، تتصدر الأحداث الدامية في غزة، عناوين الصحف والقنوات التلفزيونية والإعلام الإلكتروني، أُضيف إليها منذ حوالي الشهر أخبار الأحداث المتسارعة في لبنان، خاصة في الجزء الجنوبي منه، وفي منطقة الضاحية في العاصمة بيروت. على الصعيد الإنساني، لا شيء يبشر ببزوغ الوعي الأسمى الذي يمثل الجوهر الحقيقي لأعماق البشر، وفقاً لما جاء به التفكير الروحاني، وما أكّدته ثقافة الأديان المشرقية.
أناس يحترقون، وعائلات مشردة، وأوصال مقطعة، وبيوت مهدمة، وعيون تبكي من الألم والمعاناة والظلم والحصار، وصرخات تستغيث من هول الكارثة. هذا كل ما تلتقطه عدسات آلات التصوير، وتنقله الوسائل الإخبارية.
يوم أمس، نشر موقع الجزيرة الإلكتروني خبراً عاجلاً، أفاد أنّ الهجمات الإسرائيلية على غزة منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت ما لا يقل عن 42409 فلسطينياً، وتسببت بجروح وأضرار جسدية مختلفة لعدد يقارب 99153 آخرين، ضمن منطقة لا تتعدى مساحتها 365 كيلومتراً مربعاً، فرض عليها الجيش الإسرائيلي منذ عام 2006 حصاراً خانقاً، براً وبحراً وجواً، وقنن وصول المحروقات إليها، وكثير من السلع الغذائية، ومنع الصيد في عمق البحر المتوسط المطلة عليه.
الآن، باتت غزة كتلاً من الأنقاض الإسمنتية، تأوي تحتها أشلاءً لأناس عُزّل، أذاقهم الاحتلال مرارة الفصل العنصري والكراهية والاضطهاد مرات لا تُحصى، إلى أن قضى على بضع حياة كانوا يعيشونها، مهدداً إياهم بطائرات الفانتوم وسكاي هوك وإف15 وإف16، وبنادق إم 4 إس وإم كيه 18 إس، وبندقية تافور المتعددة الاستعمالات، وهي تُعد من أفضل البنادق في العالم، وقد استخدمها الإسرائيليون في عملية الدرع الواقي عام 2002. كان من نتائجها التوغل في المدن الفلسطينية، وارتكاب مجزرة في مخيم جنين، وقتل العشرات من المدنيين، والشروع ببناء الجدار العازل، كما استُخدمت البندقية في الحرب الثانية على لبنان عام 2006.
على الصعيد العسكري، صرّح المسؤولون العسكريون في إسرائيل أنّ هدفهم من الحرب الأخيرة على غزة، التي أسموها بعملية السيوف الحديدية، هو القضاء على مقاتلي حماس، وتفتيت بنيتها كاملاً، وتحرير الرهائن المختطفين في عملية طوفان الأقصى، وضمان ألاّ تشكّل غزة تهديداً لإسرائيل في المستقبل. وعلى جبهة لبنان، فإنّ الهدف من عملية التوغل البري «المحدودة والمحددة والموجهة»، التي دُفع إليها فرقة المظليين 98 والفرقة 36، ونتج عنها تدمير قرى وبلدات الجنوب اللبناني، وقتل وتهجير سكّانها، وقصف الضاحية الجنوبية، هو إعادة سكان المستوطنات الشمالية المحاذية للحدود اللبنانية مع إسرائيل، والقضاء على حزب الله وتفكيكه إلى غير رجعة.
حتى الآن، ما تزال أهداف إسرائيل المعلنة غير محققة. في أواخر شهر أيار/مايو من هذا العام، صّرح رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، بأنّ تحقيق أهداف الحرب في قطاع غزة سيستغرق سنوات. جاء ذلك في استعراض للوضع قدمه خلال اجتماع لجنة الأمن والخارجية بالكنيست. قال هنغبي: «لم نحقق أياً من الأهداف الاستراتيجية للحرب؛ لم نتوصل إلى صفقة لإعادة المختطفين، ولم نُسقط حماس، ولم نسمح لسكان غلاف غزة بالعودة إلى منازلهم بأمان».
ومع توسيع رقعة الحرب إلى لبنان، واحتمال امتدادها إلى سوريا، أصبح الوضع الميداني أكثر تعقيداً بالنسبة إلى الإسرائيليين، وبدأ اليقين بالانتصار يتحول إلى قراءة أكثر واقعية لمجريات الأحداث، وتقييم لقدرة حماس وحزب الله، منزوع من أوهام قدرة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.
منذ بضعة أيام، ظهر ألون بن دافيد، محلل الشؤون العسكرية في القناة 13 الإسرائيلية، في حوار متلفز، مصرحاً بأنّ «1200 طائرة مسيرة أُطلقت على إسرائيل في السنة الأخيرة، وصل منها إلى الداخل 221 مسيرة». وبحسب تحليليه، «هذا يعني أنّ 221 مسيرة، سعى سلاح الجو إلى إسقاطها، لكنّه فشل في ذلك».
وعلى القناة 12 الإسرائيلية، تحدث كوبي مروم، خبير الأمن القومي والجبهة الشمالية، عن أنّ «حزب الله منظمة عسكرية بجيش من أقوى الجيوش على الحدود الإسرائيلية، ومن الجيوش القوية في الشرق الأوسط، ولديه صواريخ وقذائف أكثر مما لدى أي دولة أوروبية، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا، وقد تعرض لضربة قاسية جداً، لكنه يتعافى شيئاً فشيئاً».
تأتي هذه التحليلات والتصريحات بالتزامن مع تقارير تتحدث عن استنزاف سلاح المقاومة الفلسطينية وحزب الله للقبة الحديدية، أشهر دروع الصواريخ الإسرائيلية، المجهزة برادارات للكشف عن الصواريخ القصيرة المدى واعتراضها، بالإضافة إلى مقلاع داوود ومنظومة السهم، وعن عدم كفاءة هذه المنظومات الدفاعية الثلاث، في التصدي لهذا الكم الهائل من الصواريخ والقذائف والمسيرات، بسبب النقص المستمر في الذخيرة.
خلال العام الماضي وحده، أُطلق من لبنان وغزة ما يقارب 20 ألف صاروخ إلى الداخل الإسرائيلي، كما أنّه يُعتقد أنّ إسرائيل استخدمت كل أنظمة الدفاع الصاروخي لديها، للتصدي للرد الإيراني، الذي جرى في الأول من هذا الشهر، بالإضافة إلى تصديها للصواريخ التي يطلقها الحوثيون من اليمن.
ووفقاً لمحللين ومسؤولين تنفيذيين بشركات التسليح، تحدثوا لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، فإنّ الدفاعات يمكن أن تشهد نقصاً حادّاً، في حال تعرضت إسرائيل لهجوم من إيران وحزب الله معاً، كما أنّ المخزونات الأمريكية لها حدود معينة، الأمر الذي يشكّل ضغطاً متزايداً على شركات التسليح من أجل تلبية احتياجات المنظومة الدفاعية، و«يجعل خطوط الإنتاج تعمل على مدار الساعة لتجديد المخزونات»، بحسب ما قاله بواز ليفي، الرئيس التنفيذي لشركة الصناعات الجوية الإسرائيلية.
رافق اندلاع الحرب على غزة سلسلة من المظاهرات والاضطرابات المدنية وأعمال الشغب، ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته. تمثل الهدف الرئيسي منها بالضغط على نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار، والتوصل إلى اتفاق لتحرير الرهائن. كانت الاحتجاجات في البداية متقطعة، لكن مع مرور الوقت، بدأت تأخذ شكلاً أكثر تنظيماً، وتزداد وتيرتها وعدد المشاركين فيها.
ذكرت منظمة موقع الصراع المسلح وبيانات الأحداث «إيه سي إل إي دي»، أنّه حتى نهاية شهر آب/أغسطس، شهدت إسرائيل 1240 احتجاجاً، كان 82% منها سلمياً، في حين تحول 9% منها إلى أعمال عنف واشتباكات مع الشرطة.
بلغت الاحتجاجات ذروتها في الأول من شهر أيلول/سبتمبر الماضي، بعد الإعلان عن مقتل ستة رهائن محتجزين، حمّل مصدر في حماس المسؤولية عن ذلك للقصف الإسرائيلي. ووفقاً لمنتدى الرهائن والعائلات المفقودة، شارك في الاحتجاج 300 ألف شخص في تل أبيب، و200 ألف شخص في أجزاء أخرى من إسرائيل.
وبخلاف ما هو مخطط له، استمرت الاحتجاجات مدة ستة أيام، شُلت خلالها مظاهر الحياة الاعتيادية، وقطع المتظاهرون طريق إيلون الرئيسي الذي يمر وسط تل أبيب، وأُغلق عدد كبير من المطاعم والمؤسسات الخاصة تضامناً مع الاحتجاجات.
لا تتوقف تبعات الحرب التي تشنها إسرائيل عند هذا الحد، فالخسائر التي يتكبدها الاقتصاد باتت نتائجها معلنة، مهما كانت تصريحات وزير المالية مخالفة للواقع. في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر، صرّح بتسلئيل سموتريش بأنّ اقتصاد إسرائيل ما زال يتمتع بالقدرة على الصمود، مضيفاّ أنّه «يجذب الاستثمارات إلى اليوم».
لكنّ تقريراً لشبكة بي بي إس نيوز آور، ذكر قبل التطورات الأخيرة في لبنان، تصريحاً لكارنيت فلوج، رئيسة البنك المركزي الإسرائيلي السابقة، قالت فيه: «إنّ الاقتصاد في الوقت الحالي يعيش في حالة من عدم اليقين الشديد، وهو مرتبط بالوضع الأمني؛ إلى متى ستستمر الحرب، وما مدى شدتها، وما إذا كان هناك تصعيد آخر».
وبحسب التقييم الأولي للمكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي، فقد شهد اقتصاد إسرائيل انحداراً أكبر مما توقعه محللو السوق، في إشارة إلى أكبر انكماش منذ حوالي أربع سنوات. ويمكن أن يعزى هذا الانحدار جزئياً إلى انخفاض العمليات التجارية الناجمة عن تعبئة العمال للخدمة العسكرية، وتقييد دخول الموظفين الفلسطينيين إلى إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، انخفض الاستثمار التجاري بنسبة 67.8%، في حين انخفضت الصادرات والواردات بنسبة 18.3% و42% على التوالي.
ومع أنّ السياحة ليست من الروافد الأساسية للاقتصاد الإسرائيلي، إلاّ أنّ الحرب على غزة ولبنان كان لها أثراً قاسياً على هذا القطاع. لقد تضرر آلاف العمال ومشاريع العمل الصغيرة، وفرغت الفنادق من النزلاء، وأوقفت كثير من شركات الطيران رحلاتها إلى إسرائيل.
وبحلول العاشر من شهر تموز/يوليو لهذا العام، أُجبرت 46 ألف شركة في إسرائيل على الإغلاق، بسبب التأثير الاقتصادي للحرب، مما أثر على كل قطاع من القطاعات تقريباً. علاوة على ذلك، وفي الشهر نفسه، أعلن ميناء إيلات إفلاسه، بسبب توقف النشاطات الاقتصادية والإيرادات، خلال الأشهر الثمانية التي سبقت الإفلاس.
بالتأكيد، يبقى لهذه الحرب تبعاتها الاقتصادية الأكبر والأقسى الأشد وطأة على الفلسطينيين في قطّاع غزة، وعلى اللبنانيين عامة، بما فيهم سكّان الجنوب والضاحية على نحو خاص.
قبل الحرب على غزة، وبسبب الحصار الإسرائيلي، كان الفقر فيها شديداً للغاية. وفقاً للبنك الدولي، كان 61% من سكانها تحت خط الفقر. وبعد شهر واحد من العدوان عليها فقط، ازدادت النسبة إلى نحو 20% عما كانت عليه سابقاً. الآن، يمكن تخيل النسبة بعد مرور عام كامل من تدمير القطاعات الحيوية، وقطع سُبل العيش فيها، وتحويل أكثر من مليوني مدني، إلى لاهثين وراء المساعدات الإنسانية من الأونروا وغيرها من المنظمات الدولية.
في شهر شباط/فبراير الماضي، أفاد البنك الدولي أنّ اقتصاد غزة تعرض لانكماش بنسبة 80%. وفي شهر أيار/مايو، ذكر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنّ 50 مليار دولار من الاستثمارات قد دُمرت، وأنّ 1.8 مليون إنسان أصبحوا يعانون من الفقر. وفي شهر آب/أغسطس، بدأت أزمة غزة النقدية بعد أن توقفت جميع البنوك عن العمل فيها.
بعد كل هذه النتائج المؤلمة، ما تزال إسرائيل ترفض بشدة أي اتفاق لوقف إطلاق النار. إنّها مصممة على حرب الإبادة بكل ما لديها من أسلحة ودعم دولي وغطاء سياسي أمريكي. إنّ الحلم بإنشاء إسرائيل الكبرى، وتوسيع الحدود، واحتلال مزيد من الأراضي، ما زال يراودها.
في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عُقدت في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر، عرض نتنياهو خريطة تضمنت الضفة الغربية المحتلة وغزة باعتبارهما جزءاً من إسرائيل. وقبل عام من الآن، عرض في إحدى جلسات الجمعية أيضاً، خريطة لما أسماه الشرق الأوسط الجديد، متضمنة غزة والضفة على أنّهما جزء من إسرائيل.
لا تتوقف طموحات إسرائيل عند هذا الحد، إنّها تصل إلى نهر الأردن، والعاصمة السورية دمشق، وإلى العراق والسعودية، وفقاً لتصريحات سموتريش الأخيرة. تتوافق رؤية وزير المالية مع رؤية كثير من أعضاء الجناح اليميني المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، بهدف تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى.
في مقابلة وردت في الفيلم الوثائقي «إسرائيل: متطرفون في السلطة»، قال الوزير اليميني المتطرف: «أريد دولة إسرائيلية ... تتوافق مع قيم الشعب اليهودي»، ثم أضاف عندما سُئل عن توسيع رقعة حدود إسرائيل: «مكتوب أنّ مستقبل القدس أن تتوسع وصولاً إلى دمشق. القدس وحدها ستصل إلى دمشق».
ليفانت: ميرنا الرشيد
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!