-
فوّاز الساجر المخرج السوري صاحب المسرح الذي يُغيّر ولا يتغيّر
ظهر جلياً توق فواز الساجر المتدفق إلى الحرية والانعتاق، في قصاصة الورق التي عُثر عليها في جيبه عند رحيله في 16 أيار/ مايو 1988.
كتب فيها: "إن عصرنا هذا هو عصر الضيق (...) أفقنا ضيق، عدلنا ضيق، عالمنا ضيق، مصيرنا ضيق، موتنا ضيق، قبرنا ضيق، الضيق، الضيق! افتحوا الأبواب والنوافذ.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الأرض والسماء.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الكون.. سيقتلنا الضيق!".
لم أسمع باسمه من قبل، على اختلاف الاهتمامات، سيكون أصحاب الاختصاص الأوفر حظّاً في معرفة هذا المخرج المسرحي وأحد مؤسسي المعهد العالي للفنون المسرحية بسوريا وعمل مدرساً فيه.
لم تكن الفجوة الزمنية وحدها سبباً كافياً للجهل بالساجر، كون الأخير قد رحل عن العالم بعد حضورنا بقليل أو قبله، لكن السبب هو التغييب أولاً، وقلة الاهتمام بالمسرح في سوريا من قبل جيل الشباب.
ولد الساجر عام 1948 م، في قرية تحمل اسم عائلته بناحية أبو قلقل التابعة لمدينة منبج شرق حلب، وقد كبر رويداً رويداً حتى حصوله على الشهادة الثانوية الأدبية عام 1965 م من الرقة.
أقبل الشاب بشغف على القراءة، وطالع بنهم كل ما وقع تحت بصره، لم يبارح المركز الثقافي العربي في منبج، حتى بات يحمل اسمه فيما بعد.
اقرأ أيضاً: "الحارة المنسية".. مسرحية تلقي الضوء على الواقع المعيشي في القامشلي
لم يكمل فواز الساجر سنته الأولى بفرع اللغة الإنكليزية في حلب عام 1966، حين حصل على منحة دراسية من وزارة الثقافة لدراسة الإخراج المسرحي في موسكو فغادر البلاد ليعود إليها مخرجاً يحمل شهادته من معهد غيتس 1972.
وعلى مسرح حلب الجامعي، أخرج باكورة مسرحياته عام 1973.
يؤمن الساجر بأن المطلوب في سوريا هو "المسرح الذي يؤكد قيماً اجتماعية وأفكاراً جديدة تدفع بوعي الناس إلى الأمام".
وكان يقول: "أنا أفهم المسرح كمسرح يغير ولا يتغير.. أنا أرفض المسرح الذي يقدم قيماً أخلاقية ثابتة من منظور تبريدي.. المسرح المطلوب في وطننا هو المسرح الذي يؤكد قيماً اجتماعية وأفكاراً جديدة تدفع بوعي الناس إلى الأمام".
يُحكى أن فترة الثمانينيات والتسعينات كانت المرحلة الذهبية للمسرح السوري، حيث شهدت خشبة المسرح في دمشق أكبر وأهم العروض السابقة من تأليف مخرجيها ومن أهم المسرحيين في تلك المرحلة والذين شكلوا ضمانة لنجاح أي عمل يدخلون فيه كمخرجين أو ممثلين، فواز الساجر، غسان مسعود، فايز قزق.
قد يكون ذلك صحيحاً في زمن ندرة الفضائيات والأعمال التلفزيونية، فكان لا بدّ لأهل المدن والشبان الحالمين من القرى أن يجدوا التسلية الوحيدة في المسرح، لكنّ ذلك لم ينجِ المسرح من الخضوع لسياط السلطة السياسية وتضييق خناق الرقابة على الأفكار والألفاظ وتطويعها لتتناسب معها.
واجه الساجر، السائد والنمطي وحاول أن يحمل منارة التغيير، وأن يجعل المسرح منطلقاً للثورة الفكرية والثقافية وتكريس الوعي بدلاً من كونه أداة ملهاة للطبقة الثرية.
وأراد أن يكون قريباً من الشخصية المحلية، حيث يغوص الممثل في صراعاتها وهمومها وطموحاتها وآلامها بناءً على الواقع.
قال الساجر عن تجربته مع المسرح التجريبي: "منذ بداية نشاطي المسرحي، رغم قصر التجربة كان هاجسي الأساسي هو الوصول إلى المتفرج مستفيداً من طبيعة تكوينه وخصوصيته الشرقية، ولذلك بدأت أختبر معلوماتي وقناعاتي المسرحية، وقد اضطررت للتخلي عن الكثير من هذه القناعات بسبب بعدها عن متفرجنا رغم أكاديميتها وثبات صحتها".
وحين يُذكر المسرح، يكون سعد الله ونوس حاضراً قوياً في الأذهان، الذي تعاون مع فواز الساجر وأسسا معاً عام 1977 المسرح التجريبي.
تحدث الراحل سعد الله ونوس، عن تلك الحقبة قائلاً: "جلست وفواز في أحد المطاعم القريبة من المسرح، والآن!! قالهـا وهو يغصُّ بالبكـاء أجبت: ألن نعمل في التجريب! المسـرح ما زال فكرة في أذهاننا والجميع ينتظرون الكيفية التي سنحقق بها فكرتنا".
فأجابه الساجر: "ومن يضمن أن عرضنا القادم لن يطوى"، فرد عليه ونوس بالقول: "لا أحد، قدرنا أن نعمل بلا ضمانات.. بعد قليل كفكف دمعته وانغمسنا في حلم جديد"، وقدما معاً (يوميات مجنون).
وبعدها اشتغل على مسرحية الكاتب الألماني برتولت برشت "توراندوت مؤتمر غاسلي الأدمغة"، والتي منعتها السلطات السورية من العرض في اليوم الذي كان يحاول فيه الساجر مع الفرقة تقديم عرض بروفا الجنرال.
اقرأ أيضاً: ناندا محمد لـ "بي بي سي": أعتبر أن الوسام تقدير لأي ممثل مسرحي سوري
إلى أن ولدت مسرحية "رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة" مأساة الإنسان العربي ضحية أنظمة القمع بأشكالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وثلاثية "ضربة شمس - حكاية صديقنا بانشو - والرجل الذي صار كلباً"، والتي عرضت في تونس.
وفي العام 1981م قدم عرض التخرج لطلبة الدفعة الأولى من قسم التمثيل وهو "سهرة مع أبي خليل القباني" لسعد الله ونوس.
قادته خطاه مجدداً إلى موسكو لدراسة الدكتوراه عام 1982 وعاد بها عام 1986 وأصبح في العام 1987 مدرساً لمادة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية. وقدم في العام 1988 مسرحية "سكان الكهف" للمسرح القومي عن مسرحية ويليام سارويان، التي شاركت في مهرجان دمشق للفنون المسرحية، وغاب الساجر عن الحضور برحيله مبكراً عن الحياة في السادس عشر من أيار عام 1988.
خلقت أعمال فواز الساجر مع فرقة المسرح الجامعي مجموعة من الوجوه الشابة التي امتهنت التمثيل، وصارت من النجوم اللامعة في التلفزيون السوري كعباس لنوري ومحمد الحمود وندى الحمصي ونذير سرحان وغيرهم.
ويذكر الفنان أيمن زيدان رسالة الراحل فواز الساجر يوم سافر إلى موسكو وهو كان أحد 26 طالباً من طلابه في المسرح قال فيها: "طوبى لمن ربح نفسه وخسر العالم".
ليفانت نيوز_ خاص
إعداد وتحرير: عبير صارم
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!