-
فنُّ النيلِ من روحِ الشعوبِ وآمالها
يبدو أنّ الوضعَ السوريّ ما زال يثيرُ شهيةَ العالم في ابتكارِ حروبٍ جديدة نظيفةٍ من الدماء، وأحدثها ظهور ما يمكن تسميته بحربِ التصريحاتِ الخلّبية، والتي ستُدخل البلادَ المتهالكة -لامحالة- في دوّامةٍ أشدّ من التوتر والتعقيد وانعدام الأمان، وتفاقمَ أثرُ هذه الحربُ المستجدّة في ضوءِ القتال الذي اندلعَ بين القواتِ الأرمينيةِ والأذربيجانيةِ جرّاء الخلاف على منطقةِ (ناغورنو كاراباخ) المتنازع عليها في جنوبِ القوقاز. الشعوبِ
إثر محاولةِ القوات الأذربيجانية استعادةَ السيطرةِ على مناطقَ سبقَ أنْ احتلتها القواتُ الأرمينية في حربِ كاراباخ في أعقابِ تفكّكِ الاتحاد السوفييتي، في هذا الوقت نقلتْ وكالةُ (إنترفاكس) الروسية عن سفيرِ أرمينيا لدى روسيا (فاردان توغانيان) تصريحه أنّ تركيا أرسلتْ نحو أربعة آلاف مقاتلٍ من شمال سوريا إلى أذربيجان، ليردّ (حكمت حاجييف) مساعد رئيس أذربيجان للسياسةِ الخارجية على الاتهاماتِ الأرمينية، نافياً صحة هذا التقرير، بينما طالب وزيرُ الدفاعِ التركي (خلوصي أكار) أرمينيا بوقفِ هجماتها فوراً وسحبِ المرتزقةِ والإرهابيين الذين جلبتهم من الخارج، في الوقت الذي صرّحتْ فيه وزارةُ الدفاعِ الأذربيجانية أنّ مرتزقةً سوريين يقاتلون في صفوفِ الجيش الأرمني خلال الاشتباكاتِ الدائرةِ على جبهةِ إقليم كاراباخ.
ولا يخفى على أحد حرصُ تركيا على تجنيدِ المتمردين السوريين كوسيلةٍ لتحويلِ الوضعِ في سوريا لخدمةِ سياستها الخارجية، في البداية، أنشأتْ مجموعاتٍ مثل (فيلق الشام والجيش الوطني السوري) ودعمتها، وجمعتْ الآلاف من السوريين الفقراء للقتالِ في جرابلس (في محافظة حلب) في 2016، ثم أرسلتْ الآلاف للقتالِ ضدّ الأكراد السوريين في عفرين كوسيلةٍ لتقسيمِ شمال سوريا واحتلاله، ثم جنّدتْ السوريين وأرسلتهم للقتالِ في ليبيا، ويبدو أنّ أردوغان معتادٌ على خلقِ أزمةٍ دولية جديدة كل شهر، حيث افتعلتْ أنقرة أزماتٍ متتالية هذا العام: في إدلب في شباط وآذار، ثم في ليبيا في نيسان وأيار، ثم قصف شمال العراق في حزيران وتموز، وتهديد اليونان في شرق المتوسط في آب وأيلول، ومؤخراً تعهدت بدعمِ أذربيجان في اشتباكاتها الأخيرة مع أرمينيا، حيث انتشرتْ صورٌ ومقاطع فيديو لحافلاتٍ يُزعم أنّها تحملُ مرتزقةً سوريين جنّدتهم تركيا لإرسالهم باتجاه أرمينيا، وهناك من يؤكد أنّ هؤلاء السوريين الذين جندتهم أنقرة هم على صلةٍ بمن ارتكبوا جرائم في عفرين وتل أبيض.
في هذا الوقت، وبينما التصريحاتُ الدولية على أشدها، ما تزال الحكومةُ السورية في فصامٍ عن الواقعِ المأزوم، متصدّرة قائمة دولِ العالم في قراراتها المدهشة وبرودها المستفز تجاه مصائب شعبها التي لا تنتهي، حيث أعلنتْ عن افتتاحِ سفارةٍ لجمهوريةِ أبخازيا في العاصمةِ السورية، ليصرّح وزير الخارجية السوري أنّ هذه الخطوة قد تكون باكورةً تشجعُ الآخرين الذين ندموا على مقاطعةِ سوريا من أجلِ إعادةِ فتحِ سفاراتهم في دمشق، وتمّ التوقيع على اتفاقيةٍ للإعفاءِ المتبادل من سماتِ الدخول لمواطنِيّ البلدين من حاملِيّ جوازات السفر الدبلوماسية والرسمية والمهمة والخاصة.
وفي سياقٍ موازٍ، وعلى سبيلِ الانفصام الذي يعيشه الناطقون باسم الوجع السوريّ، وفي إطارِ التصريحات التي ألقاها خلال افتتاح اللجنة الاقتصادية والمالية الثانية للدورةِ الخامسة والسبعين للجمعيةِ العامة في الأمم المتحدة، أكدَ بشار الجعفري أنّ أبرزَ التحديات التي تواجهها سوريا هي الإجراءات القسرية أحادية الجانب المفروضة على الشعبِ السوري، وكأنّ الأخيرَ كان يعيشُ في النعيمِ قبل قانون قيصر، كما شدّد على أهميةِ القرارِ الذي تعتمده اللجنة منذ العام 1996 بشكلٍ سنويّ حول السيادةِ الدائمةِ للشعبِ الفلسطينيّ في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وللسكان العرب في الجولان السوريّ على مواردهم الطبيعية، معرباً عن إدانةِ سوريا لممارساتِ الاحتلالِ الصهيونيّ، ونهبه واستغلاله المتواصل للموارد الطبيعية في الجولانِ والأراضي الفلسطينية المحتلَين، والإضرار بها والتسبب في ضياعها وتعريضها للخطر، وفي الحقيقةِ لم ينقص سوى الحديث عن استعادةِ لواء اسكندرون بينما معظم الأراضي السورية تخضعُ لاحتلالٍ خارجيّ من القوات الموالية للنظام السوري والمعارضة له. الشعوبِ
في المقابل صرّح الرئيسُ السوري، في لقاء صحفيّ، أنّ الحربَ ضدّ الإرهاب لم تنتهِ بعد، ما دام هناك إرهابيون يحتلون بعضَ المناطق في سورية ويرتكبون مختلفَ أنواعِ الجرائم والاغتيالات، وأنّ القضاءَ عليهم يشكّلُ أولويةً، وفي ردّه على تصريحِ الرئيس الأميركي برغبتهِ في الاغتيال، قال الأسد: (إنّ الاغتيالَ يمثّلُ طريقةَ عملٍ أمريكية، فهذا ما يفعلونه دائماً، على مدى عقود، وفي كلّ مكان، وبالتالي فهو ليس أمراً جديداً)، وأكد أنّه إذا لم تغادر الولايات المتحدة وتركيا سوريا، بعد القضاءِ على الإرهابيين، فإنّ السوريين سيبدؤون انتفاضةً شعبية.
والحالُ لا يختلفُ في الداخل السوري، بينما يعيش الشعبُ المنكوبُ لعنةَ الطوابير، ورغم تأكيد واشنطن أنّ العقوباتِ التي فُرضتْ على أركانِ النظام السوري وأعوانه، لا تستهدفُ الشعبَ أو المعوناتِ الإنسانيةَ المقدّمة له، غير أنّ وسائلَ الإعلامِ الرسمية بمنصاتها المختلفة صرّحت -وبثقةٍ مطلقة- أنّ ما يعانيه الشعبُ من فقرٍ ونقصٍ بالخدمات ووقوفٍ في طوابير الانتظار الطويلة يعودُ إلى قانون قيصر، تُضاف إليها التصريحاتُ التي خرجتْ في الآونة الأخيرة لتثيرَ غضبَ الشارع السوري في الداخل، والتي حمّلته أعباءَ الأزماتِ الاقتصادية التي تشهدها البلاد، لاسيما تصريحات مدير عام المخابز، زياد هزّاع، الذي عزا السببَ الرئيس لنقصِ الخبز، إلى زيادة الطلب عليه، كونه جزءاً أساسياً من (قوتِ الأخوةِ المواطنين)، بعد ارتفاعِ أسعارِ المواد الغذائية، وكانتْ وزارةُ التجارة قد أعلنت، في وقتٍ سابقٍ، عن بدء بيعِ مادةِ الخبزِ بالبطاقةِ الإلكترونية، في خطوةٍ لم تغيّر من واقعِ الحال المأساوي شيئاً. الشعوبِ
وطبعاً طوابيرُ الرغيف تأتي متزامنةً مع طوابيرِ السيارات التي تمتد على عدّة كيلو مترات أمام محطاتِ الوقود، في مشاهد مهينةٍ للكرامة، في الوقت الذي كانتْ فيه تصريحاتُ المسؤولين في وزارة النفط، أقلّ وقاحة، إلا أنّ الوزارةَ حاولتْ إبعادَ تهمةَ التقصير عنها بالقولِ إنّ مجهولين يتلاعبون بالأسعارِ عبر التلاعبِ بالبطاقة الذكية وتهريبِ البنزين إلى السوقِ السوداء، وبموازاةِ ذلك كانتْ تصريحاتُ الموظفين في الإعلامِ الرسمي ووزارة الإعلام، تنفي وجودَ المشكلة بالتأكيد أنّ من يشتكي من وجودِ الطوابير يشكّل (طابوراً خامساً)، وأنّ الطوابير تتواجدُ في أرقى الدولِ الغربية من أجلِ أمورٍ بسيطةٍ مثل الوقوف على الدورِ في مكتب البريد، ومن الصعوبةِ بمكان الردّ على تلك المقولاتِ الخاليةِ من المعنى، فهي بالجديّة التي يتحدثُ بها أصحابها، تمتلئ بالهزلية. الشعوبِ
مع تحوّل النظامِ إلى نسخةٍ كاريكاتوريةٍ عما كان عليه قبل سنوات، وبرّر بعضُ الموالين للنظام الموقفَ بالقولِ إنّ مشهدَ الطوابير هو تعبيرٌ عن الشرفِ والبطولةِ لأنّ الدولةَ في حالةِ حربٍ، وإنّ الوقوفَ على الطابورِ أشرفُ من انتظارِ المساعداتِ في مخيماتِ اللاجئين، ولم تتوقف سخافة التصريحات هنا، فبعد اندلاع الحرائق التي أكلتْ مساحاتٍ واسعة من الساحل السوري، مؤخراً، تصرّح وزارةُ الأوقاف أنّ الحلَّ الأمثل لإطفائها هو صلاة الاستسقاء، بينما يصرّح المعلّقون في التلفزيون الرسمي أنّ الحرائقَ سببها الإرهاب ولا شيء غيره. ونحن بدورنا لا يسعنا التأكيد أخيراً إلاّ على خطورةِ هذه النوع من الحروب الناعمة القائمة على استغباء العقول، والتي في جوهرها ليست إلا فنّ النيلِ من روحِ الشعوبِ والتجارةِ الرخيصةِ بأوجاعها وآمالها، وربما هذا أعظم انتصار يُسجّل لها.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!