الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
عقدٌ على سيميائيات الجرأة والحلم
جمال الشوفي

على الرغم من أن جملة ك: "تجرّأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة"، جملة لغوية ذات نسق عربي في الإفصاح والإعراب والبيان، فيها الفعل والنا الدالة على الجماعة، وفيها النفي والنصب والجار والمجرور، لكنها، جملة لا تنتمي للموروث العربي اللغوي كلية، سيكيولوجيا وفكرياً، وإن دل على شيء يدل من حيث المبدأ على أنّ اللغة ذات دلالات سيميائية تشير الى التواصلية بين اللغة والحدث من جهة، وتحققها في نسق معرفي مختلف عن السائد والمألوف، أيديولوجياً، وهذا اختلاف ومفارقة لم يتحول عربياً لثقافة جمعية يعبر عنها لغوياً.


لم يحمل الموروث اللغوي العربي ذلك الترابط الهام بين الإرادة الجمعية والحلم العام كميزان للكرامة الشخصية، بقدر ما حمل بين طياته تلك الكاريزما اللغوية التي تحاكي اللغة من منظارها القومي الجامع، حيث أنّ حلم الشعب العربي في الحرية والتحرر من الاستعمار أواسط القرن العشرين الماضي، تحول إلى جملة من الشعارات الفضفاضة لغوية والمنفصلة كلية عن مجريات الواقع العربي وأحداثه، سياسياً واجتماعياً وثقافياً.


كلمات كالحرية والثقافة والحلم العربي وغيرها، تناولتها لوحات فكرية أدبية وفنية عربية متعددة، وغُنيت على الكثير من منابر الثقافة العربية، لكنها في ذات السياق حين برزت ذات الكلمات من أوساط الشباب العربي، في بواكير ربيعه قبل عقد من اليوم، أنكرت عليهم ذات المنابر وذات الفكر القوموي المسيس والسلطوي وبخلاصتها اللغوية، سياسياً وثقافياً، حلم الحرية وتحقيق الكرامة من منظار تحقق الدولة، دولة الحق والقانون والدستور العام الذي يحقق أبسط قواعد العصر في إتاحة الفرص المتساوية في التعبير والإمكانية والتعليم وتولي مناصب الدولة، دون أن تتدخل المحسوبيات السياسية والأجهزة الأمنية التسلطية بإزاحة ذوي الكفاءة والعلم والإمكانية، وتعيين من هو دونهم وأقل منهم إمكانية وعلم وقدرة بغية احكام أسلوب التبعية والهيمنة على مفاصل الدولة ومؤسساتها، وربطها بمؤسسة السلطات الحاكمة في كل دول الوطن العربي.


السلطات التي لم تتوانَ عن اعتقال وترهيب كل من لديه قول أو تعبير أو رأي مختلف وفتح بوابات الاعتقال التعسفي والمحاكمات القضائية المسيسة، لم تكتفِ بفعلها السياسي هذا وحسب، بل عملت بنموذجها السلطوي الاستحواذي والاستئثاري على فتح منابر ومؤسسات تلفيقية للثقافة والفكر واللغة. فهي من جهة تقدم الوجبات الجاهزة اللغوية في الحرية وحلم الوحدة والاشتراكية والعدالة، ومن جهة أخرى تعمل على اجتثاثها من الواقع المجتمعي سياسياً واقتصادياً، وأيضاً وهو الأهم في عوامل الثقافة والممارسات النفسية المجتمعية، تصنع ما عرف بالتاريخ "بشعراء البلاط" ومثقفي السلطات العاملين على الترويج الأمني والسياسي لهيمنة هذه السلطات، ولثقافة أنّ هذه المجتمعات العربية الشرقية لا حياة فيها، يسودها التخلف والجهل ويجب أن تبقى تحت وصاية حكامها وسياسييها من الأحزاب القوموية العربوية التي حكمت طوال نصف قرن دول المنطقة بذات العقلية والمنهجية. لذلك لم يكن مستغرباً أبداً وعندما أتت موجات الربيع العربي أن ظهرت تلك المفارقة بوضوح لا يحذوه الشك بين ثقافة الهيمنة السلطوية وزيف لغتها، وبين ثقافة الحلم والجرأة عليه، تحقيقاً للكرامة والحقوق والعدالة المجتمعية، بحيث تتصل الكلمة بدلالتها اللغوية حدثاً ومضموناً ومعنى، وهذا ما لا تقبل به سلطات السياسة الحاكمة وسلطات الثقافة واللغة المعتاشة في ظلها.


لقد تجرّأنا على الحلم قول لغوي عربي نعم، لكنه قول مختلف عن أيديولوجيات السلطة والحكومات الحاكمة عربياً، عن ثقافة وفكر مسيسي السلطات الممسكين بمفاصل مؤسساتها الثقافية والفكرية يحيون من يشاؤون ويرددون ثقافياً خلفهم أداليجهم النفعية في إبقاء الشعب غارق في مستنقع عدم الإمساك بإرادته الحرة كباقي شعوب الأرض، ويقتلون فكرياً عن عمد كل من يتجرأ على الحرية والحلم، بوصفه ترابط ومعنى وإرادة جمعية مختزنة في أفئدة الشعوب المقهورة والمغلوب على أمرها.


في الكلمة والثقافة، كما اللغة، ثمة أنساب قديمة حاولت في الإعراب والتصريف والنحو، لكنها ومع تطورها اللافت والكبير، بقيت أسيرة المرجعية الثقافية أو القَبْلية، فثمة العربية، واللاتينية والصينية والفرنسية، كأعراق قومية بذاتها، لكن العصر الحديث، عصر الحريات واختلافاتها رأياً وفعلاً والحقوق المتساوية القانونية والدستورية والمنضوية جميعها في جملة من حقوق الإنسان، باتت تشير لوحدة كونية، لمرجعية إنسانية عامة، ففي اللغة بدأت تبرز الألسنية وعلوم الصوتيات والفونتيك، كما وبدأت تتحرر علوم الرمز والدلالة وعلاقتها باللغة من جهة وبالحدث الحسي من جهة أخرى. فقد برزت في العصر الحديث عدة محاولات أبستمولجية تحاول الوصل بين المعرفة ونظرياتها وبين العلم وتطور أدواته التقنية، ومنها السيميائية (السيميولوجيا)، والتي تحاول أن تكون علماً ذا شمول معرفي وعلمي بآن مكتمل القواعد. تلك المحاولات قادت الباحثين للعمل في علومه المتخصصة وتبويبها في أنساق وأنماط، كسميولوجيا الدلالة والتواصل واللغة والثقافة وهي محاولتنا المنهجية في موضوع الكلمة والثقافة ومفارقات دلالات الحرية في الربيع العربي.


من الضرورة القول إنّ اللسان والمنطوق من القول هو فيصل العملية المعرفية تلك: فحيث تظل إمكانية التأسيس لأي نموذج لغوي دال جديد مرهونة بمدى تقاطعه مع اللسان الجمعي ثقافة ومنطوقاً بمظاهر متعددة، تصبح العلامة بوصفها مضموناً ودلالة على حدث عام داخل اللسان وذات مظهر دلالي مستقل، تستطيع من خلاله أن تؤسس للمظهر السيميائي للسان، وبالضرورة التأسيس لفعل ثقافي ولغوي عام. فهل تلك الجمل اللفظية التي قدمتها لفظيات المظالم الكارثية والدموية والجرأة على حلم يمكنها أن تشكل نسقاً لسانياً ومظهراً سيميائياً في نمو نزعتي الحرية والكلمة؟ وليست أي كلمة، بل تلك الكلمة الموطنّة في عرف الإنسان كأداة للفكر، ودلالة محتوى، ورمز دلالي، كما هي تعبير وجودي بآن، دون هذا الفصل التعسفي بين ثقافة ومثقفي السلطات وبين دور الثقافة والكلمة حين تصبح موروثاً ثقافياً يمارس شعبياً.


الكلمة وجود مكتمل حين ترتقي بذواتنا الضعيفة لمصاف الانوجاد الإنساني، والحرية شرطها الأول، وحيث إنّ الواقع الإنساني متعدد الأبعاد يصبح إيجازه في نص أو كلمة غاية في القسوة. وهو ما يلقي بتلك المسؤولية الكبرى على دور الكلمة، فقد تشكل رافعة وجودية وتحدث دلالة في تجاه إنساني، وذاتها ستمثل دلالة موت حضاري أو صنم فكري يقوّض الحياة ما دونها، ولنا في كلمة الحرية وإرادة الشعب الحية اتساع في المعنى والدلالة، فحيث تكتسي اللغة بعداً وجودياً وتعاطفاً إنسانياً، تتحوّل لثقافة وعقل تواصلي، هي سيمياء دلالية وتواصلية بآن، هي مدلول كما هي موضوعة وتصور مفهومي وبالضرورة هي حلم لم يتحقق بعد.


الكتابة اليوم، نمطية كانت، أدبية، فكرية، سياسية، فلسفية، ضرورة وجود وبقاء، حقيقة كبرى تشق وعر الثقافة والفكر المرتهن لسياسة السلطات التي تحرم على شعوبها الحرية، وعليها ألا تعجز، عليها ان تنحت من صلادة الحروف جملاً وكلمات تليق بقدرة الشباب ومستقبلهم، وإلا صعب على العابرين من بعدنا أن يعلموا ماذا جرى وكيف جرى وكيف تجرأت شعوب على الحلم غير نادمة على امتشاقها كرامتها الإنسانية والحقوقية، رغم ما عملت بهم أدوات القتل الفكري والثقافي كما السياسي حتى حولتهم لشعوب منثورة في كل شتات الكون



جمال الشوفي


ليفانت - جمال الشوفي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!