الوضع المظلم
السبت ٣٠ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
طريقة التغيير: هذا ما لم ننجزه بعد
جمال الشوفي


ليتها كانت هدية من السماء، على مبدأ “كوني فكانت”.. لكنها، ولحكمة في الكون والوجود البشري، كانت سيرورة صراع مرير تنتابها كل محاور الاستقطاب والاختلاف لتثمر الأفضل، حتى إذا ما حدث تمسكنا به كونه ناتجاً من قلب مأساتنا.. هكذا هو تاريخ صناعة الحضارة وهوية الأمة، تاريخ من الصراع الطويل في حلقاته الممتدّة منذ الأسطورة الآدمية الأولى وقصة الخلق، مروراً بالأساطير اليونانية والرومانية القديمة والبابلية والفينيقية والفرعونية، وصولاً إلى الأيديولوجيات الدينية ومذاهبها، إلى مقتضيات الثورة البرجوازية ورسوخها العالمي في الصراع على مراكز النفوذ والسيطرة والتحكم.


الصراع كمغالبة محسومة بين خاسر ورابح “حسابياً”، هو ما توهمه أصحاب السلطة ومعارضوها سياسياً، فسقطوا جميعاً في حسابات الإزاحة والنفي المثنوي المميت، بينما الصراع هو هوية التطوّر والتقدّم والبحث الدائم عن معنى للحياة يجيب عن أسئلة الوجود والهوية والتطلع، وأسئلتنا اليوم: التغيير والاستقرار والأمان والهوية، فالصراع لاينتهي عند سقوط سلطة واستبدالها بأخرى، بل هو مجرد لحظة من لحظاته، وما التغيير سوى لحظته الأشد كثافة في الصيرورة التاريخيّة للمجتمعات ينهي حالة صراع محسوسة ويفتح الطريق إلى أخرى.


الصراع الدامي الذي شهدته المنطقة برمتها، وما زال مستمراً لليوم بشكل جزئي وموضوعي، وخاصة في كل من سوريا واليمن وليبيا والعراق، لا يمكن أن تفسّره نظرية المؤامرة العمياء تلك، ولا يمكن أن تحلّ عقده في فصول أو مقولات، كبرت أم صغرت، فدموية المشهد، واشتداد مآسيه خاصة في سورية، تدل على مدى تمسك وصلف السلطة الحاكمة فيما كانت تحتكره من ميزات تاريخية، وعلى كم الدعم التي كانت وما زالت تتلقّاه من محاور إقليمية ودولية عدة، ومهما تعددت الأسباب والنتائج في تحليل وتحديد ماهية الصراع ومساره وتشابك القوى الإقليمية والدولية الفاعلة فيه، كمناطق نفوذ إقليمية، روسية ايرانية تركية، لن تقف المسألة هنا ولن تتوقف القصة السورية عند حدود.


السمة الأبرز للمسألة السورية لليوم، هو سقوط أيديولوجيا السلطة وتهاويها، سواء عند الأنظمة الحالية أو من المعارضة، التي يمكن أن تحلّ مكانها، وستسقط أي أيديولوجيا شمولية قادمة للحكم، سواء كانت عسكرية أو دينية أو وصائية متعددة الجنسيات، كما ووهم الاستفراد في القرار الوطني، “فالقفة” ذات الأذنين الاثنين ستميل ويندلق ما فيها إن حملت من إحدى أذنيها، فكيف وإن كان لها عدّة آذان تحتاج لحمل الأيادي معاً، وهذا ما لم ننجزه سياسياً بعد لليوم.


أيديولوجيا احتكار السلطة والاستفراد بها هي الساقطة لليوم بحكم الواقع، وإن تأخرت قرارات إنجازها، وما الروح الهائمة في فضاء المنطقة، وحجم هول كوارثنا واحتدام حلقات التنافس العالمي عليها ومنها، ليست سوى دليل على أنّ الصراع القائم اليوم، وإن تبوّأت السياسة والسلطة عنوانه الأبرز، وطغت عليه سمة الحرب والقتل والتدمير، إلا أنّه صراع عميق في سؤال الهوية والأمة، فـ”الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه، ولا أخطؤوه من كل وجوهه، بل أصاب منه كل إنسان جهة”، حسب قول أبي حيان التوحيدي، والخروج من شبهتي الزمن والسياسة، ولنقل بمعنى آخر، شبهة الوجود المغلق في دائرة الاستبداد والحصول على سلطة ما، هو ما نفته حركة السنوات الماضية، وأكدته في كسر أطواق التقوقع السياسي الأيديولوجي والديني الإثني وانعكاساتها في سلوكنا التنافري، في حوارنا التحاجزي، في موضوع قهرنا اليومي، الذي لم ينتج سوى المزيد من الخراب، والمساهم الأكبر في تأخير التغيير السياسي اللازم، وما زالت الأيام سجالاً في تاريخ سوريا المعاصر والمنطقة برمتها، لتبدو اليوم حلقة دولية محفوفة بكل صنوف المخاطر.


منذ فجر الربيع العربي والعالم برمته، يقف مشدوهاً أمام الحراك الشعبي الكثيف الذي ملأ الساحات والمدن والشوارع، وكأنّ عدوى الثورات تنتقل عبر اللاسلكي، بالإشارات، بالعقلية التواصلية المحدثة التي اقترحها الفيلسوف “يورغان هابرماس” لكسر هيمنة منظومة العولمة وطوق أسرها للإنسان وحريته، بالتفاهمات بكل اللغات الحديثة منها والقديمة، موحدة الصوت في التغيير، في التحرر، في الحلم بالدولة والقانون، ولم يفتأ العالم المتقدّم يناور في مساندتها ويلعب على تموضعاتها ويهادن في حسم مواقفه العملية منها، وهو يعي تماماً ماستحدثه هذه الثورات في سياق العالم أجمع، وإحراجه أخلاقياً أمام جمهوره، وهو الضالع في الديموقراطية وحقوق الإنسان، فلم يفتأ ينقل من مدينة لمدينة، مؤتمر تلو مؤتمر، جنيفات، أستانات، موسكوات، وقاهرات، واللعب على حبال الوقت، فقط حتى يرضى الجمع السوري بموقف الخاسر الكلي، ليقطع على الربيع العربي فورته، وحلم تحقيق الدولة الوطنية.


للأسف غرق الكثيرون منا في لعبة الدول هذه، وباتوا رهن تصريحاتها الإعلامية دون تدقيق في معنى عالم السياسة اليوم، عالم المصالح، اتفاقاً أو اختلافاً على ملف جزئي دون الخوض في صراعات كبرى، وتحوّلت مجمل المسألة السورية لصراعات بينية على موقع سلطوي هنا أو هناك، متناسين أصل الحدث والقدرة التي صنعته، وأنّ الكل خاسر ما لم يحدث التغيير، والتغيير في المسألة السورية بات محكوماً بالإرادة الدولية وطرق حلّ خلافاتها بينياً، نعم هذا صحيح، لكنه هذا التغيير لم ننجز له بعد آلياته الممكنة، وما يمكن أن يجهزه السوريون لتغير مختلف عما تداولناه سابقاً في الأسطر أعلاه بين أحلام وأوهام السلطة وإحكام السيطرة فيها. وما يجب أن يجهزه السوريون اليوم وقبل الغد:


1- الاختلاف في الرؤى السياسية حق مشروع، لكن التوافق التشاوري على ضرورة فتح ممكنات التغير دولياً، أولى المشاريع وأهمها.

2- تفعيل العقل التشاوري الجمعي وفق معطيات الواقع المحلي والدولي، وإمكانية تحريكها من معطى راهن إلى ممكن لتغيير قادم.

3- البناء الفعلي على ضرورة أحداث تغيير دولي في سورية والمنطقة، تريده كل الدول الضالعة في الملف السوري، وأولها روسيا وتركيا، كما دول الخليج ودول العالم من خلفها، تجنباً لأيّة كارثة إقليمية أو دولية قد تحدث.

4- الحل السوري 2254/ 2015 ليس سوى حل دولي تفاوضي بين الروس والأمريكان أممياً على قطبية العالم، وسورية نقطة استناده الرئيسة، لكنه ليس حلاً سحرياً للمسألة السورية بحجم كوارثها، بل بوابة حلول طويلة وشاقة ما بعدها، لكنها ستعيد تموضع المسألة السورية في الداخل لا كما هو الحال اليوم في الخارج، والداخل في نزاع مستدام مع الموت.


5- كل من لا ينضوي متواضعاً في تحريك ملف التغيير هذا وتفعيل القرار 2254/ 2015 لم يدرك من المسألة السورية بعد على مستوى السياسة الدولية شيئاً، فمن أراد الاستفراد في قرار المسألة الوطنية السورية فليخبرنا عن طريقته بالحل، وسنصفق له، سنصفق له طويلاً إذا ما أتحفنا بنموذجه الفريد الذي لم يخطر على بالنا.

6- لا يمكن للمسألة الوطنية أن تكون وحيدة الاتجاه أبداً، لكن يمكن لمجموع الاتجاهات المفردة هذه أن تصب في لحظة التغيير هذه، إذا ما كانت لحظة التغيير هي الهدف المرحلي لا شبهة السلطة والقرار المفرد.


وزن الريشة في العالم نحن، لكننا الجبل الراسخ في الأرض، فعل الكون المغير لوجه التاريخ مهما صرّح سين أو عين من سياسي العالم، فالتغيير حاجة محلية وإقليمية ودولية، وهذا ما يجب أن ننجز إمكانياته ومحاوره اليوم قبل الغد.


ليفانت – جمال الشوفي 








 




كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!