-
روسيا والغرب والتشابكات المعقدة في الشرق الأوسط.. كسر الإرادات والبحث عن بدائل
ثمة تحركات لافتة، على أكثر من مستوى، تبرز عمق وتمدد المتغيرات على الساحة الدولية، وما يتصل بها من قضايا إقليمية عبر الفاعلين الدوليين، وارتباطهم بالأطراف الإقليمية. نحو ذلك وخلال مدة قصيرة لم تتجاوز الثلاثين يوماً، التقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، مرتين.
جاءت الزيارة الأولى خلال انعقاد قمة أستانا في طهران والتي جمعت روسيا وتركيا وإيران. هذه الزيارة التي عاد منها أردوغان بدون بطاقة خضراء تسمح له تنفيذ تهديداته بخوض مغامرة عسكرية جديدة في شمال سوريا، بل إن زيارة أخرى بموازاة القمة على مستوى رؤساء الدول الثلاث، تمثلت في حضور وزير خارجية سوريا، فيصل المقداد، ولقائه نظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، حيث قام الوزير السورري بإعلان تصريحات عنيفة ومتشددة ضد مخططات تركيا في سوريا، بينما حذر من تدشين منطقة آمنة، الأمر الذي يضع أنقرة في "موقع الصراع".
والمحصلة كانت عودة الرئيس التركي ليفتش في جعبته، أو بالأحرى يستدعي حيلة من آخرين (تحديداً من روسيا البوتينية)، تتمثل في إمكانية عمل مصالحة بين المعارضة والنظام في دمشق، بما يعني احتمالية تقارب وشيك بين "الأسد" وأردوغان.
ومن ثم، التقى أردوغان وبوتين، مرة ثانية، بمدينة سوتشي الروسية، في مطلع الشهر الجاري آب/ أغسطس، وذلك لمناقشة عدد من القضايا المشتركة والملفات المتشابكة بين الجانبين على خلفية توظيف المشهد المعقد في الصراع الروسي الأوكراني، وما نتج عنه من تداعيات تتصل بأزمة الحبوب، لا سيما بعد الوصول إلى اتفاق بين موسكو/ كييف لاستئناف تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود للحد من أزمة الغذاء التي يئنّ منها العالم في الفترة الأخيرة.
فضلاً عن ذلك، فالزيارة جاءت في توقيت دالّ مع بؤر ساخنة في الشرق الأوسط. إذ تأتي الزيارة في ظل توترات ميدانية من خلال الجانب التركي، تعكس تمسكه بشن عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا. كما أن الزيارة سبقها استقبال أنقرة لعدد من المسؤولين الليبيين، حيث استقبل أردوغان رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، والسيد عبد الله اللافي.
الملفان الليبي والسوري لا يمكن بأي حال غض الطرف فيهما عن هيمنة الحضور الروسي في كافة مفاعيله الاستراتيجية، وبالتالي من الصعوبة فصل ذلك عن اللقاء التركي الروسي، خاصة أن أنقرة خلال الفترة الأخيرة تتحرك نحو كسر حضورها في العاصمة الليببة طرابلس، حيث مساحات أرحب في الشرق والأطراف الفاعلة هناك. مع الوضع في الاعتبار أن المشهد الدولي يسمح بأي تحرك يتجنب تسخين مسرح الأحداث حتى وإن كلف ذلك إقصاء حكومة عبد الحميد الدبيبة وتمكين رئيس الحكومة المكلف، فتحي باشاغا، الذي يتمتع أيضاً بعلاقات جيدة مع أنقرة منذ أن كان وزيراً للداخلية في حكومة السراج.
من الصعوبة أيضاً أن تغفل تحرك أنقرة التكتيكي في الأزمة الروسية الأوكرانية، وتوظيفها كافة ما يجري من وساطات دبلوماسية لتخفيف حدة الصراع، وتقريب وجهات النظر نحو استثمار ذلك مع موسكو لتنفيذ أجندتها الأمنية والسياسية والعسكرية في تحييد المناطق المتاخمة لها في شمال سوريا وصنع مناطق آمنة على حساب هشاشة الوضع السوري وداخل إطار موافقة الجانب الروسي.
موافقة موسكو على شنّ العملية العسكرية الأمر الذي لا يمكن ترجيحه هي ورقة تكتيكية ممتدة للتفاوض حول عدد من النقاط التي ترى موسكو أهمية اقتناصها في ذلك الوقت الحرج عبر أكثر من مستوى وداخل أكثر من ملف متشابك مرة مع الجانب التركي مباشرة وأخرى داخل غلاف المجال الدولي.
نافذة الحوار التي تطل من جديد بين أنقرة وموسكو من خلال مدينة سوتشي الروسية تبرز بشكل واضح ارتباك وتناقض المصالح المشتركة بين الجانبين، وكذا تؤكد أن اللحظة الراهنة طوت صفحة الرؤية الواحدة بين الدول في السياسة الخارجية، بينما كشفت عن إطار المصالح الدقيقة من خلال كل ملف. إذ تسمح اللحظة الراهنة بتوافق وتناقض وخلاف، بل وصراع كل بمنسوبه المحدد والدقيق والمرتبط بتوقيته وأهدافه.
عبر ذلك، ينبغي أن يضحى النقاش منطقياً متى ما طرحنا بقية الافتراضية الأولى التي استقرت عند كون الزيارة تهدف لمناقشة قضايا عدة، منها ملف العمليات العسكرية في شمال سوريا والوضع الليبي، خاصة أن الملفين في وضع معقد وعلى الجانب الآخر من زاوية الرؤية الغربية. ولذلك وجب الإشارة إلى الجانب الآخر من المعادلة: ما الذي يحتاجه الجانب الروسي من تركيا حتى يسمح له بتفاعل مختلف، سواء في سوريا أو ليبيا؟
روسيا تدرك تماماً أنها تضغط بشدة على رقبة الغرب عبر ملف الغاز والحبوب في مواجهة العقوبات الأمريكية والأوربية نتيجة الحرب في أوكرانيا. ولذلك تدفع بكل قوة نحو أن تبدو طرفاً أصيلاً في إدارة السياسة الدولية ومسؤولاً عن ملفاتها المباشرة. ومن خلال ذلك قد يبدو من السيناريوهات المطروحة في الشأن الروسي أن تدفع موسكو أنقرة نحو تحييد علاقاتها مع نظام بشار الأسد رغبة منها في كسر الجمود الذي يحيط بالرئيس هناك، خاصة من الجانب الغربي، فضلاً عن مصالح موسكو في الملف الليبي ضد رؤية الولايات المتحدة وأوربا، سيما أن اللحظة الراهنة لحظة اختيار مبعوث أممي جديد وسط تباين الرؤى حول اسم المبعوث الجديد.
رغم ذلك كله لا ضمانة حقيقية لرضوخ الجانب التركي لأهداف ومصالح الجانب الروسي وتحركها عسكرياً في الشمال السوري، وفقاً لتصريحات وزير الخارجية التركي، حين قال "لن نطلب إذناً من أحد" مستغلاً حالة السيولة في المشهد الدولي وارتباك كافة الأطراف الرئيسة في ملفاتها المباشرة الأمر الذي يسمح لكل جهة بتحرك مباشر.
حالة التعقيد التي تشوب بؤر التوتر وما يتصل بها من أطراف لا تسمح باستقراء النتائج عبر سرديات أحادية البؤرة ونتائج حادة، تبرز في حقيقة الأمر أن التفاوض على نقاط محددة وتفاصيل دقيقة ستضحى هي المسار الحقيقي لكافة الملفات العالقة إقليمياً ودولياً.
ليفانت - رامي شفيق
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!