-
روج آفا.. نهاية حلم.. وولادة أفق؟
ليس من اليسير على أي قومية أن تقيم دولتها، بعد انتهاء عصر القوميات وبداية عصر العولمة، خاصة على أمة لم تستكمل بناءها، ولم تحاول إنشاء دولة خاصة بها عبر التاريخ، فالدولة الأمة بمفهومها المعروف، والتي طغت في العصور الحديثة، تقوم على شعب ذو هوية قومية واحدة مكتمل التكوين، يسكن تاريخياً على أرض محددة، أقام فوقها نظاماً سياسياً في فترات متكررة من التاريخ ولمدة معقولة.
العناصر الأساسية لقيام دولة كردية مستقلة قد غابت تاريخياً بسبب التداخل الديموغرافي مع قوميات أخرى أقوى وأكثر تمايزاً هيمنت عبر التاريخ كالفرس والعرب والترك، حيث هيمنت الدولة الفارسية قبل الإسلام، ثم شكلت الدولة العربية طيلة ست قرون أهم وأكبر دولة في العالم حينها، وكذلك فعلت الدولة السلجوقية والعثمانية التي حكمتها القومية التركمانية طيلة ست قرون أخرى، وكان الكرد أحد شعوب تلك الدول طيلة عشرين قرناً من الزمن، لم يذكر فيها الكرد كأصحاب دولة، مع أنهم كانوا أحياناً في قيادة الدول التي حكمت المنطقة (صلاح الدين).
الكرد استمروا فترات زمنية طويلة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، كبدو يقطنون الجبال ويعيشون على الرعي والصيد والغزو، مثلهم مثل أغلب العرب والتركمان، لكنهم لم يشكلوا حاضرات مدينية مستقلة تابعة لهم بعكس العرب والتركمان، من هاجر منهم للمدن استقر فيها واندمج في ثقافتها، من دون الحفاظ على هويته، بقوا ككرد طيلة العهد العربي ثم العثماني يعيشون كقبائل متنافسة في كنف الخلافة، من دون الشعور بالتمييز أو بالحاجة للتمايز السياسي والتجمع الجغرافي، لكن مع دخول الاستعمار في نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأ عندهم حراك قومي متمايز لكنه أضعف كثيراً مما ظهر عند الترك أو العرب، ولم يلحظ اتفاق سايكس بيكو ضرورة لقيام دولة كردية بسبب التداخل الديموغرافي كما ذكرنا، وكذلك فرنسا (المولعة بالتقسيم) لم تلحظ وجود منطقة ذات تمايز كردي لتعطيها صفة الدولة عندما قسمت سوريا، فمناطق روج آفا لم تكن مأهولة بعد، بل معظم سكانها قدموا إليها من مناطق أخرى (البادية أو الهجرة من تركيا) أثناء الاستعمار الفرنسي، فالحديث عن حق تاريخي في تلك المنطقة غير مقبول من أي طرف، ناهيك أن مصطلح (حق تاريخي في الأرض) غير صحيح أساساً، وغير موجود في النظم والثقافات وحتى الديانات، فالأرض لله يورثها لعباده من يشاء، ولا تعلم نفس بأي أرض تعيش أو تموت.
لكن النزعة القومانية التركمانية وكذلك العربية مارستا تمييزاً مجحفاً بحق الكرد الذين تمسكوا بقوميتهم بطريقة متشنجة كأداة دفاع عن النفس ضد الظلم، فالموضوع القومي والتاريخي حساس عندهم بشكل مفرط، بمقدار تراكم ذكريات القمع والتمييز، ومن الطبيعي لأي شعب في العالم أن يطالب بالكرامة والعدالة وأن يشعر أنه ليس أقل من غيره من الشعوب، القومانية العروبية والتركمانية المتعصبة هي من حرضت القومانية الكوردية المتعصبة، والظلم الذي مارستاه على الكرد دفعهم للمزيد من التعصب الدفاعي، حتى صار من الصعب إجراء أي حوار حول التاريخ والحقوق وصيغ العيش المشترك.
الدول تنشأ وتزول، وبريطانيا العظمى التي كانت تمتد على القارات الخمس تقلصت اليوم لدولة ضعيفة تقارب الإفلاس، وكذلك فرنسا ... أيضاً حلم إقامة الدولة الكردية يرتبط موضوعياً بزوال الدول الأخرى (العراق سوريا ايران تركيا) ... هكذا بقي الحلم الكردي بكردستان المستقلة يحيا في نفوس معظم أبناء الشعب الكردي الذين يشعرون بمرارة ظلم التاريخ، وظلم القوميات الأخرى التي تشعر بدورها أن هذا الحلم يقوض وجودها.
مع انهيار نظام صدام كانت المحاولة الأولى المدعومة من الاحتلال الأمريكي، ولكنها لم تنجح بالرغم من حالة الاهتراء الذي تعاني منها الدولة العراقية، وكذلك انهار أيضاً حلم كردستان الغربية بالرغم من حاله الاهتراء التي تعاني منها دولة سوريا، والسبب في هذا الفشل ليس مؤامرة أو تخلي، فالدول المعنية قد انهارت، ومع ذلك لم تنشأ دولة كوردية على أنقاضها، السبب الحقيقي هو غياب الظروف الموضوعية اللازمة لقيام هذه الدولة، وهذا ما يجعل قيامها يتطلب بقاء جيوش دولة عظمى تقوم بحراستها.
بالرغم من وجود موارد نفطية وزراعية كبيرة ، لم تهتم قسد في تطوير الاقتصاد، ولم تهتم في اشراك العرب بشكل فاعل في المجالس المحلية، ولا حتى في مشاركة الكرد ذاتهم الذين فرّ معظمهم من بطشها ومخابراتها التي لا تختلف عن النظام. ولم تهتم في تلطيف حدة العدوانية التركية، بل تعمدت استفزازها برفع صور أوجلان في كل مكان، فقد راهنت بشكل خاطئ على الدعم الأجنبي الأمريكي والغربي، والذي كان مجرد وهم.
مع انتصار حزب البي واي دي على داعش بدعم أمريكي هائل في عين العرب (كوباني) أولا ثم في كامل شرق الفرات، هيمن حلم دولة كوردستان الغربية (روج آفا)، وتحمست الفرق الكوردية لذلك في كل مكان رغم خلافاتهم التي لا تنتهي، وتشجعت أربيل على تنظيم استفتاء على الاستقلال، ولكن جحافل الإيرانيين والعراقيين الشيعة اجتاحوا كركوك وقضموا جزءاً هاماً من الدولة الموعودة بيوم واحد، وهددوا باجتياح ما تبقى... وبعد سنة قامت تركيا أيضاً بمساعدة المعارضة السورية التي تدور في فلكها باجتياح مناطق قسد بسهولة ويسر غير متوقعين، ولم ينفع كرد المجلس الوطني تلك الوثيقة المخادعة التي وقعوها عند دخولهم الائتلاف، بينما هرولت قسد لحضن النظام وايران وهم أيضاً أعداء للقضية الكوردية، مما دفع بالولايات المتحدة للرضوخ للمطالب التركية بإنها حلم الدولة الكوردية، وابعادهم عن مناطقهم وقراهم كلها، ليصبحوا لاجئين في المناطق العربية، أو قوات احتلال لها بالشراكة مع قوات النظام المعادي لكل مكونات شعبه على الإطلاق.
وهكذا وأمام تلك الحقيقة المرة جداً على الشعب الكردي، فإن أفق النضال المتبقي أمامهم، ينحصر في تطوير نظم الدول التي يعيشون فيها باتجاه الديموقراطية واحترام التنوع القومي وحقوق الانسان، والأهم من ذلك تشجيع صيغ التعاون بين الدول والشراكة الإتحادية بينها بشكل يتماشى مع عصر العولمة، وبذلك يغيب تدريجياً الطابع القوماني المركزي عن تلك الدول، وتصبح القوميات عنصراً ثانوياً في قيام تلك الدول الاتحادية، ويتحقق نوع من العدالة السلبية، أي النفي المتبادل، للذات وللآخر، في سياق دول لا يمكن وصفها بالدولة الأمة.
على كل حال هذا هو الشكل التاريخي الطبيعي الذي حكم المنطقة قبل دخول الفكر القومي المستورد من أوروبا إليها، والذي تسبب بكوارث ليس أقلها العنصرية والاستبداد والتمييز، والحروب الأهلية التي أنهت تلك الدول وحولتها لدول فاشلة في النهاية.
استمرار الكرد في جبهات الحرب العنصرية والشوفينية ، وحرب الإلغاء والاضطهاد ، لن ينتج عنه إلا مزيداً من سفك الدماء والخراب، القضية الكوردية ستنتصر عندما تنتصر النزعة الإنسانية على النزعة العنصرية، قدر الكرد أن يناضلوا من أجل الإنسانية في كل مكان ودولة يعيشون فيها.. وأن يقودوا الشعوب في طريق التعايش والتسامح القومي والديني.. إن مستقبل المنطقة عرباً وكرداً وتركاً مرتبط بمقدار نضالنا معاً ضد العنصرية والتمييز ،والاستبداد والجريمة المبررة بدوافع سياسية ودينية وعنصرية في مجتمعاتنا أولا قبل غيرها.. نحن مع القضية الكردية بمقدار ما تكون تجاوزاً للتعصب والشوفينية والإضطهاد وتزوير التاريخ والتهجير الديموغرافي، ولا نتوقع انتصارها في حال استخدمت ذات أسلحة أعدائها.
قدر الله أن يحارب المظلومون الظلم، لا أن يصبحوا ظالمين، وأن يحاربوا التمييز والاضطهاد كضحايا له، لا أن يصبحوا مرتكبين.. وقدر الضعيف أن ينتصر بقوة الحق، وقدر القوي أن ينتصر بالهمجية والبطش عادة، وبدلاً من السعي لتقسيم الدول القائمة يمكن السعي لتوحيدها معاً، وبدل السعي لترسيخ الشعور القومي كأساس للدولة المتزمتة والقمعية، يمكن السعي لتأسيس روح المواطنة والديموقراطية وحكم القانون، وبدلاً من السير بعكس التاريخ لتحقيق حلم قومي مضى زمانه، يمكن السير بجد نحو المستقبل لتحقيق وعد ننتظره طويلاً بأخوة إنسانية عادلة (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) (وجعلناكم شعوباً وقائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
بدل أن نخوض حروب الإلغاء القومية والدينية، لنتسابق بالديموقراطية وحكم القانون، وحقوق الانسان والحرية، والبناء.. معركتنا ليست مع الآخر القومي أو الديني، بل مع التخلف والاستبداد والظلم.. أينما كان ومن أي جهة مورس. هكذا تبقى القضية الكردية حية، وتصبح قضية كل شعوب المنطقة وكل الانسانية، وإلا فهي ستخضع لميزان القوة الهمجية التي لم تكن في صالحها ولن تكون.
أخيراً إذا كان حلم روج آفا قد انتهى، فهناك أفق إنساني أكبر ينفتح أمام الجميع في الشرق الأوسط.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!