-
رقصة القبور.. سيرة بني خالد ما بين الواقع والخيال
ربما كنتُ مثل الكثير من القراء الذين تأثروا برواية القوقعة، وذرفوا الكثير من دموع القهر على تفاصيل الحياة اليومية، التي كان يعاني منها السجناء في سجن تدمر سيء الصيت، لذلك كنت أنتظر أن أرى رواية على ذات المنوال من الكاتب مصطفى خليفة، ولكن روايته الثانية " رقصة القبور" التي صدرت عام 2016، لم تكن كذلك، بل حتى لم يكتب لها ذلك الصيت الذي كتب للقوقعة، التي باتت أحد أهم الوثائق على ذلك المسلخ البشري.
"رقصة القبور" تلك الرواية التي فيها شيء من الفنتازيا التاريخية، وشيء من عدم الترابط بين المقدمة والصلب، فعندما يرى القارئ في مقدمتها أن فكرتها جاءت على وقع صوتين، صوت السياط حين تقع على جسم المعتقل، وصوت المعتقل حين يتأوه من الألم، يعتقد القارئ أنه أمام نوع جديد من أدب السجون، التي تعتبر القوقعة أهم ما أُلف فيه.
لكن الواقع هو أن " رقصة القبور " التي تنطلق من السجن تعود إلى الحياة العادية للناس، ليكون السجن والظلم والقمع نتيجة وليس سبباً، وعلى وقع الظلم والانتقام المضاد، كفعل وردة فعل يقضي أهل منطقتنا أزمانهم منذ أمد بعيد، والنتيجة الطبيعية لكل هذا هو أن القبور دائماً تتحرك، بل حتى تمور وترقص لامتلائها بالجثث.
عاد الكاتب إلى تاريخ ما قبل الإسلام ليرصد الخلافات على الزعامة بين أبناء العمومة من أفخاذ قريش، بني المخزوم الذين يمثلهم الوليد بن المغيرة، والذي لم يؤمن بدعوة محمد لأنه كان يرى نفسه أحق بنزول الوحي عليه! وهو والد خالد بن الوليد، القوي والغني. وبنو امية التجار الأغنياء الذين مثلهم معاوية، الداهية، والذي فتك -حسب الرواية طبعاً- بأبناء خالد بن الوليد عندما علم أن هناك نية لتقدم ابن خالد الكبير عبد الرحمن لمنازعته الملك، ماعدا طفل واحد هرب مع أمه بالأموال والذهب الكثير الذي تمتلكه إلى قرية في الشمال السوري، ليكوّن هناك عائلة ونسلاً كبيراً، تعيش هذه العائلة معزولة، خشية الانتقام. وهنا يأتي دور الفخذ الثالث من قريش، وهم بنو هاشم الذين كانوا ذوي سمعة طيبة بين العرب، كونهم أرباب السدانة والسقاية لحجاج بيت الله الحرام.
وهنا تقول الرواية أن أحد المشايخ الشيعة جاء من العراق لزيارة أمير الإمارة الشيعية التي كانت مسيطرة على حلب حينها، وفي طريقه مر بالخالدية، فوجد أنها تعيش رغد العيش فلم يرُق له ذلك، فأوغر صدر الأمير الشيعي ضد بني المخزوم، الذين كانوا سبباً بخسارة علي بن أبي طالب في صفين، فجهز الأمير جيشاً كبيراً قضى على كل هذه العائلة، ماعدا طفل وأمه، اختفوا في سرداب، حتى انجلى غبار المعارك، ثم عادوا ليؤسسوا عائلة الخوالد من جديد، إلى أن جاء حكم حافظ الأسد، الذي لم يسمه الكاتب بالاسم تصريحاً، بل بالتلميح سماه المارشال لم يرغب بإبادة هذه العائلة، بل فقط إذلالها وإفقارها، وخصوصاً عبد السلام وريث زعامة هذه العائلة، ومسؤول الشباب في حزب شيوعي، حيث أوعز المارشال لأحد ضباط المخابرات بإذلال عبد السلام، بل حتى اغتصاب زوجته مارال الأرمنية أمام أعينه، وهذا الضابط كان حسب الرواية لا ينتمي إلى طائفة المارشال، الذي كان لا يعطي المهمات القذرة إلا لضباط من الأغلبية.
وكأن قدرنا أن نعيش دائماً في التاريخ، حتى بعد ظهور الإسلام، ولكن اكتست هذه المنازعات على السلطة بين أفخاذ قريش لبوس السنة والشيعة، بل حتى بعد ظهور الأحزاب العلمانية، ظلت هذه الخلافات متجذرة، وإن تم إلباسها لبوساً عصرياً تقدمياً.
بين الواقع والخيال، والتاريخ والفنتازيا، تسير فصول هذه الرواية حتى تفسر لنا شيئاً من واقعنا المعقد في سوريا، فالجميع يدعي الانفتاح، ولكنه يرى في نفسه وطائفته أو عرقه هو أفضل ما خلق الله، وهنا تسرد الرواية بعضاً مما حصل في حلب نتيجة الزواج من طوائف مختلفة، فالجميع يمارسون العنف ضد من يتزوج أنثى من طائفتهم، حتى وإن كان هؤلاء ينتمون إلى أحزاب شيوعية لا تعترف بالدين أساساً.
والد عبد السلام، رجل دين إسلامي، ولكنه لم يمانع زواج ابنه من أرمنية، وكان منفتحاً ومتسامحاً، ولكن ابنَيْ عبد السلام عبد الرحيم وعبد العظيم أصبحا سلفيين، ولم يقبلا حتى برؤية أمهما، في إشارة إلى الانتكاسة التي نعيشها في واقعنا الحالي، والعودة إلى الانتماءات الأولية، فيما قبل تشكل الدولة، فبدل التقدم إلى الأمام في التفكير والسلوك نرى أن هناك ردة مجتمعية إلى الماضي، وربما محاولة الرواية العودة إلى الماضي هي خير دليل على ذلك.
لم يرد مصطفى خليفة أن يكون حبيس قوقعته ذائعة الصيت، التي كانت قوتها من سرد الأحداث في السجن الصحراوي الرهيب، فعاد برواية جديدة في الطرح، تحمل كل مواصفات الرواية المكتملة الأركان مع تقنيات سرد روائي محكم، والإثارة التي تبقي القارئ منجذباً للرواية حتى نهايتها.
العلاقات الحميمة في الرواية تمت المبالغة في وصفها قليلاً في بعض الفصول، وخصوصاً العلاقة بين عبد السلام وابنة عمه مريام القادمة من كوسوفو، ربما هي دليل على الكبت الجنسي الذي نعاني منه في مجتمعاتنا.
وتبقى الأحداث التاريخية التي يتم تداولها في الروايات خاضعة لمنطق الرواية وصنعتها، القائمة على الإثارة والتشويق، والتلميح والإسقاطات، وربما المبالغات في بعض الأحيان، ولا يمكن اعتمادها كوثيقة تاريخية، خصوصاً عندما يكون الحديث عن عائلة كبيرة كعائلة الخوالد المنتشرة في عدة بلدان عربية.
مصطفى عباس
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!