-
دوامة المقارنة بين سوريا والغرب
كان الطقس بارداً صباح يوم من أيام شهر شباط، الثلج كان قد تساقط طيلة ليلة أمس وغطى معظم البيوت والشوارع، السعادة بدت واضحة على وجوهنا ونحن نتراشق كرات الثلج في باحة المدرسة في درجة حرارة تقترب من الصفر، رنّ الجرس فهرعنا بسرعة للاصطفاف كالعادة لإلقاء تحية العلم الصباحية بلباسنا الذي يشبه لباس العسكر، والمعروف بـ”لباس الفتوة”، الذي فرض على التلاميذ في مدارس سوريا منذ سبعينيات القرن الماضي قبل أن يتم إلغاؤه عام 2003، واستبداله بلباس “مدني”. ما هي إلا دقائق حتى توقف الضجيج تماماً وتحوّلت باحة المدرسة إلى طوابير مستقيمة من تلاميذ مرحلتي الدراسة الإعداديّة والثانوية ونحن في حال استعداد لتحية العلم، وهو تقليد يومي تلقى فيه هتافات وشعارات حزب البعث قبل بدء الدوام المدرسي.
“استااااارح”.. صاحت رباب أنسة التربية العسكرية، وهي سيدة في منتصف العمر قصيرة القامة ذات شعر أشعث وأسود، ترتدي كعادتها ثياباً داكنة الألوان وكأنّها على موعد مع جلسة عزاء، تقف بشموخ وسط المنصّة المرتفعة في صدر الباحة، وعلى يمينها طالب ذو جسد نحيل متعب ووجه شاحب، لعلها اختارته مسبقاً ليقوم بمهمة رفع العلم، الذي بدا باهتاً ومربوطاً بحبل طويل مهترئ على طول سارية حديد غطاها الصدأ، وعلى يسارها جدار تتصدّره صورة ضخمة للرئيس حافظ الأسد.
“استااااااعد”.. صاحت مرة أخرى، كان صوتها الجهوري وشخصيتها المخيفة يثيران الزعر في نفوسنا، ولم يكن يجرؤ أحدٌ على النظر إليها مباشرةً، تقف رباب صباح كل يوم عند مدخل باب المدرسة الواسع بوجه غاضب وجسد نحيل، تحمل عصا بيدها كضابط عسكري في حالة تأهب ليمارس عنفه على الآخرين، نعبر أمامها واحداً تلو الآخر بخطوات ثقيلة وظهر محنٍ كضحية تخاف جلادها وعيناها تتبعان كل تفصيل من تفاصيل لباسنا وشعرنا وأظافرنا، ربما هي لحظات مدة العبور هذه ولكنها كانت ثقيلة وطويلة. لطالما شعرت بالاختناق من هذه الالتزامات العسكرية، وكم تمنيت لو أستطيع أن أهرب بعيداً عنها لأصل إلى مكان آمن مليء بألوان الحياة، كانت رهبة المرور هذه لها أسبابها، فمن يخالف قواعد اللباس والأظافر وربط الشعر يعاقب بالضرب أو البقاء لساعات في الشمس أو المطر أو تنظيف حمامات المدرسة.
“قائدنا إلى الأبد”.. صاحت هذه المرة بنبرة أعلى وأكثر عنفواناً لنردد خلفها “الأمين حافظ الأسد”، يتلوها “إلى الأبد إلى الأبد يا حافظ الاسد.. بالروح بالدم نفديك يا حافظ”، ومن ثم نبدأ بترديد النشيد الوطني “حماة الديار عليكم سلام”، بينما يرفع ذلك الطالب الشاحب الوجه العلم عالياً في سماء الباحة.
دار شريط الذكريات هذا أثناء جلوسي على أحد مقاعد الحديقة العامة القريبة من منزلي والمطلة على نهر التايمز، جنوب غرب مدينة لندن، الجو حار والورود تزيّن المكان بألوانها البراقة، بينما بدا النهر مع انعكاس الشمس على سطحه كلوحة فنية تعجّ بألوان الحياة. على الضفة المقابلة، كان هناك ثلاثة فرق إحداها تمثّل الملكة إليزابيث الثانية، ملكة المملكة المتحدة، تقوم بمهمة إحصاء عدد البجع، هذا التقليد الذي يقام سنوياً منذ ثمانمائة عام للاحتفال بزيادة أعداد البجع، لكنه تحول في العصور الحديثة إلى وسيلة للحفاظ على الحياة البرية.
أدخلني هذا المشهد الذي يضجّ بالجمال، مثل الكثير من المشاهد التي تصادفني كل يوم، في دوامة المقارنة بين سوريا والغرب، هذه المقارنة، والتي رغم مرور أكثر من سبعة عشر عاماً منذ انتقالي للعيش في لندن، تبقى حية لا تغيب، ربما هي الغيرة من بلد ديمقراطي مزدهر اقتصادياً وحضارياً يحكمه القانون العادل وينعم المواطن فيه بالأمان، وربما لأنّنا -نحن السوريين المغتربين- محكومون بالمقارنة كوننا ولدنا في بلد سُلبت فيه أدنى حقوقنا الإنسانية، وغادرناه بحثاً عنها في الدول المتحضرة.
تهاجمني الأسئلة ذاتها في كل مناسبة ومع كل تجربة جديدة، ماذا لو كنت قد ولدت في بلد حضاري قضيت فيه سنوات طفولتي ومراهقتي في مدرسة تحفّز على التعليم وتساهم في تنمية الطالب نفسياً واجتماعياً؟ ماذا لو كانت سوريا يحكمها نظام ديمقراطي وبرلمان يمثل جميع أطياف الشعب؟ ماذا لو عشت شعور المواطن الذي يفتخر ببلده التي توفر له الأمان والكرامة؟ قد يطول الحديث هنا ولكن تبقى المقارنة تلعب دوراً كبيراً في حياة كل من هجر وطنه بحثاً عن إنسانيّته.
ليفانت – رانيا حلاق
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!