الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
حساسية اللون والكلمة عند الحكم النعيمي
بسام سفر

عندما جمعنا منتدى غسان كنفاني الثقافي في مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية بإحدى مقررات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سنوات النصف الأول من عقد التسعينيات من القرن العشرين( الشاعر محمود سرساوي, الروائي والقاص علي الكردي, الراحل عامر محمود, الراحل الحكم النعيمي,زياد أحمد, وبسام سفر) لم يكن أحداً منا, أو أحداً من سكان مخيم اليرموك يتوقع أن نصل إلى ما وصلنا إليه في العام2012, من شتات داخلي في دمشق وريفها, وسوريا, ومنه إلى شتات في الشتات للفلسطيني السوري الذي في أصقاع الأرض الأوروبية.


 وكان لأنشطة منتدى غسان كنفاني فعل السحر علينا ففي العام1996, حيث استضاف الفنان محمد الوهيبي, والفنانة عتاب حريب, في ندوة حول الفن التشكيلي والمقاومة قدمتها وأدار الحوار فيها الراحل الحكم النعيمي.


 وفي العام1997 أقام المنتدى بذكرى وفاة غسان كنفاني مجموعة من الأنشطة منها معرض تحية إلى كنفاني للفنان الحكم النعيمي كان افتتاحه بتاريخ3/8/1997 إلى جانب بقية الأنشطة, وفي معرضه في المركز الثقافي بالمزة في العام1998, تحدث إلى الصديق والزميل أحمد خليل في حوار نشره في جريدة البعث سأله: اللون الأزرق هو السيد بين ألوانك فما دلالاته لديك؟!


وكانت الإجابة أن" اللون له دلالات مورثة من القدم فهو رمز الحكمة والخلود والصداقة المفرطة في الشفافية, وقد استعمل قديماً في عمليات الوشم, بالإضافة إلى أن اللون الأزرق هو لون السماء ولون البحر هذا من جانب, ومن جانب آخر حسب نظرية الألوان كاملة يصبح الأزرق مكملاُ للأحمر والأصفر ومشتقاتهما من أخضر وبرتقالي وبنفسجي".


 وعن المضمون في لوحاته قال:" يجب التمييز هنا بين نجاحات الشكل واللون والتعثر في المضمون بمعنى الانسياق وراء الجمالية الصالونية والتطبيقات المتكررة التي تجتر نفسها. في أعمالي بحثت عن خيط صغير يربط اللوحة بالأخرى, أحياناً بتكرار الفكرة المطروحة برؤى مختلفة, وأحياناً بتشابه لوني مع اختلاف المضمون والانتقال من مدرسة لأخرى بشكل لطيف".


 لم يتوقف نشاط الفنان الحكم النعيمي عند اللوحة بل توسع بدافع الحب للكاتب والمسرحي والسياسي غسان كنفاني حيث جمع الشهادات التي كتبت عنه في كتاب طبعه في العام2001, بعنوان" غسان كنفاني, شهادات وصور" صدر عن مؤسسة غسان كنفاني الثقافي, بيروت".


وفي استهلال الكتاب يجيب لماذا اليوم؟!! إذ يقول: "تأتي ذكراه كل سنة وفي جعبة الأصدقاء ورفاق الدرب والزملاء ما يجعله مزداناً بالتألق, وذلك يردف إيماني بتحقيق إصدار الكتاب رسوخاً أكثر لا من باب فجوة الفراغ الأدبي ولاقتحام عالم النشر بعدما ترعرعت تلك الفجوات في جنينية المفاهيم بل لما تحمله الشهادات من دلالة عميقة تستوجب التوقف عندما هو أعمق وأنبل لدى دينامية الفكر المبدع". ويوضح أن" لنتائج التاريخ كما في كل مرة عواقب جمة الخيبة عندما يبلغ التضخيم في المعرفة التاريخية حدة, أظن أن غسان من القلائل الذين تجاوزوا هذا المرض حين عمل تجبير التاريخ لصالح الحياة يجعله تاريخاً غير خاضع للزمن, يمكن تفسير ذلك باستشهادنا بالعديد من الروايات التي اتسمت بالديمومة وممكن وصفها بالعمل الأدبي لزمن آت".


 ويضيف أنه" عند قراءة ما كتبه غسان كمذكرات يتضح لنا أنه من الممكن أن يحيا الإنسان داخل التاريخ وربما خارجه في آن, وهذا متوقف على القضية التي توصي بدخول معترك الحياة بأكثر صميمية على متابعة تحييد الزمن لصالح حياة أطول".


ويؤكد أن غسان كتب ذات مرة:" الخوف..الخوف فقط الذي يدفعهم لكتابة تلك الكتب وليست الحقيقة على الإطلاق.. إن الذي يكتب بدافع من شعوره بأنه خائف ليس يكتب من شعوره بأنه يبحث عن الحقيقة".


ولم يتوقف مشروع الراحل الفنان النعيمي عند غسان كنفاني, وإنما بدأ بمشروع توثيق" فلسطين, ذاكرة شعب ذاكرة وطن" بالعام2003, وجاء في الجزء الأول في تعريف" الصهيونية, العنصرية, قرارات الأمم المتحدة(194,338,242), جدول تاريخي لمدينة القدس, الإرهاب والصهيونية, التوزع الديموغرافي للشعب الفلسطيني, قضية اللاجئين, ببلوغرافيا بلاد العالم, الفن التشكيلي الفلسطيني, أبرز المحطات العالمية, الأزياء الفلسطينية, المعالم التاريخية في فلسطين, طوابع الثورة الفلسطينية".


والجزء الثاني بالعام2004, احتوى على" فلسطين تاريخياً, دلالات العلم الفلسطيني، تاريخ المسكوكات الفلسطينية, حقوق اللاجئين, حق العودة, الدين والدولة في إسرائيل, الأقضية الفلسطينية والقرى المهدمة, المقدسات الفلسطينية, مشاهد من القدس, صور وأدباء راحلون, مشاهد من الانتفاضة"، وشاركه في هذا الجزء الراحل عامر محمود.


أما الجزء الثالث كان عن" جغرافية فلسطين, موجز تاريخ فلسطين, كنعان, اليبوسيون، ثورة يافا, الكتاب الأبيض, حكومة عموم فلسطين, وعد بلفور, اتفاقية سايكس بيكو, قضية اللاجئين, جدار الفصل العنصري, الإرهاب الصهيوني, الحركة الأسيرة, بيلوغرافيا أدباء ومفكرون راحلون, كاريكاتور الفنانة أمية جحا,أبرز المحطات التاريخية في العالم, مشاهد من النكبة عام1948, صور من البطولة". وصدر هذا الجزء في العام2005.


في حين احتوى الجزء الرابع على تقديم بعنوان" فلسطين...أرض كنعان, المنشآت الأثرية في الحرم الشريف, الإرهاب الصهيوني( الاغتيال نموذجاً), المجازر الصهيونية, المخيمات الفلسطينية في الداخل والشتات, ببلوغرافيا السينما الفلسطينية خلال نصف قرن, الإنتاج العربي من الأفلام الروائية, أبرز العمليات البطولية للشعب الفلسطيني"، وشاركه في إعداد هذا الجزء الراحل عامر محمود.


والأجزاء الأربعة من تصميم وإخراج الحكم النعيمي، ومن إنتاج المركز الشبابي الفلسطيني( جفرا) ومنتدى غسان كنفاني الثقافي, وكتب على الغلاف الأخيرة لها التالي:" فلسطين أرض الآباء والأجداد, وهي وطن لأحفاد أيضاً.. وإن كان العدو الصهيوني قد مارس عملية اقتلاع جزء كبير من شعبنا من مدنه وقراه إلا أن الذاكرة الفلسطينية والعربية  تحتفظ بصورة الوطن من خلال شتى أساليب المقاومة ( البندقية والريشة والقلم والكاميرا..).


ولأن الذاكرة حافلة بأسماء أبطال  جبلوا بدمهم الطينة الأولى للنضال فمن واجبنا. وفاء لهم إبراز تلك المعالم التي طالما أرقت مضجع الاحتلال ببنادقها وأقلامها وريشتها وكاميراتها.


 إن إصدارنا للجزء الرابع من المفكرة إنما يهدف إلى تسليط الضوء على جرائم الاحتلال أولاً التي طالت أطفالنا وحرمتهم أن يحيوا كبقية أطفال العالم وأبطالنا الذي وهبوا أنفسهم ليحيا الوطن في الذاكرة ومن حمل لواء مقارعته بإخراج أفلام كانت مواكبة لمسيرة نضال شعب فلسطيني. مخرجون حملوا على عاتقهم فضح ممارسات الاحتلال وهم في المنافي البعيدة منها والقريبة وبقصد تعميق انتمائنا للوطن الرازح تحت الاحتلال. والعمل على تحريره بكل الوسائل لنعود فاتحين إلى فلسطين..كل فلسطين".


هواجس شعرية:


أن المحطة الذاتية الأبرز في حياة الحكم النعيمي هي الشعر حيث أصدر العديد من المجموعات منها" مرثية لسيدة الورد, تخوم الوحشة، نصف الحلم كله حقيقة، خارطتي الخاصة جدا، ورجل في قلب أمة".


ومن مجموعة تخوم الوحشة التي صدرت في العام 2001, وكتب في استهلالها" ما كان لنا أن نشرع حزن النخيل على الأفق المستدير عبق, وليس لدينا ما يوحد المسافات إلا ظلالا تحفظ أسرار الياسمين, وشأن الخريف أن يختزل الطريق نحو الجميل فينا. هي الساعات تسرق من عمرنا ظل الأمس وتدفع الخطى عن جنبات الأمكنة من هاجس الذبول ونشرعه على الطرقات صبحاً كي يستعيد عاشق أحلامه أمسه".


وتحتوي المجموعة على القصائد التالية:" ترنيمة الظلال النائمة, ورد ومزهرية, تخوم الوحشة, نون الانتظار, الآن وقت وأنت كل الغياب".


 ومن قصيدة ترنيمة الظلال النائمة اخترت المقطع التالي:"


 الروح للصدى


 والريح للريح


 حين يأتي مطر ويحاذي أشواقه الذبلى


 تنسى العصافير أن تخلد على شاهدته


 ترقب حلمه كل صباح


هربا من حصار المدن


 كان(أنا) وحده


 ما شابهته الأيادي وخبأته


 نحو شغف رحيل ودفأته


 هي المواني تحضر طهر قبورنا


 أين الأيادي التي ما شابهته


 رقد واهباً الياسمين أناقة الربيع


 وسهد القطارات التي تهيم


 في شوق الأغنيات والسفر القديم


 نسي ارتحال الآه والموال


 وشوق الحبيب إلى الحبيب


 في رائحة السرة


 في حضن البرتقال


 بين تكنولوجيا الثورات المعاصرة


 وحرب العشق الجديد ضد الأنبياء


... وتمضي وحيداً مقدار اغتراب ونيف


 تدنو من التشابه


 والتقارب


 والتجاذب


 وما ملكت يداك


 وما استطاع أن يحضر الهم في عينيك


 تقاطيع غربة


 في يديك وفي أساك


 ولغصن زيتونة


 تهوي المراثي عن سدرتها


 وتغرق في صمت رؤاك


 إن الظلال وإن تجلت


 غفا على رصيفها


 سأم ونام".


 ومن قصيدة" نون الانتظار" التي كتب في مطلعها" ويكون أن نأتي قبل الغياب, نستجدي أصداء من سبقنا مترجلاً, عن أحلامه ينتظر ليلاً آخر".


 ويهدي القصيدة إلى المفكر اللبناني مهدي عامل, ومن المفيد الإشارة أن هذا المقطع هو متكوب الغلاف الأخير"


 سارت ذئاب الوقت


 فوق جفن الليل


 ترقب غزالة وحشتي


 واستراح السبات فوق


 خافقيك مذعوراً


 فأيقظ وحدتي...


بلهاء تلك الأماسي


 تبحث في ذكرى الرحيل


 عن حالها...


 ماذا تلملم من سواد


 نثرته أصداء الغياب!


 وعن كحل تمدد في دمي


 وعن درب ضائع


 تلى أسفار رحلته كالتميمي


 عند الإياب!"


أن حياة الراحل الحكم النعيمي حافلة بكل وسائل التعبير من الريشة إلى اللون واللوحة, ومساحات البياض التي ملأتها بألوانه كتعبير عما يجول بداخله من أبداع إلى ساحة إلى التوثيق لفلسطين كذاكرة لشعب.. ذاكرة وطن, إلى ذاتية شخصية عبر عنها بالحرف والكلمة لإيصال ما يعتمل في دواخله من حب للحياة والإبداع رغم كل ظروف القهر التي عانى منها في حياته من السجن والدراسة والعمل إلى الشتات داخل سوريا وخارجها.


وأخيراً الغربة عن البلاد التي أحبها فلسطين التي لم يزورها إلا في الصور والأحلام, وسوريا التي عاش فيها عبر مخيم اليرموك حيث عجنت حساسيته الإنسانية التي وصلت إلى ذرى خاصة.


بسام سفر                                               

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!