-
حاتم الذي يشبهنا جداً
"لم يمت أحد تماماً.. تلك أرواح تغير شكلها ومقامها" (محمود درويش).
أما وقد أصبح الموت عادة عند السوريين فذلك مما لا شك فيه عبر السنوات العشر العجاف التي عاشها السوريون، وأما فقد دفنت عديد الهامات السورية الباسقة دون تأبين ولا صور ولا بكل ما يليق بها من تذكار، فهذا أيضاً مما لا شك فيه وقبل الثورة لا بعدها وإلا فماذا يعني أن يمشي قلة من الأشخاص في جنازة الكبير نزار قباني قبل أن يدفن في دمشق.
لماذا اليوم يعاد الاعتبار لموت مبدع سوري ويأخذ كل هذا الحبر والصور المتناقلة عبر وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي امتلأت بصور الراحل الكبير وحيثيات رحيله ونقل جثمانه من قاهرة المعز إلى الفيحاء التي أحبها وصورها وأخرج أفراحها وآلامها إلى حيّز المتعة والفن بكلمة واحدة؟.
في محاولة الإجابة عن هذا السؤال تنطوي عدة ممكنات لكنها تصب في المآل الأخير في إجابة ربما تكون مؤلمة لعديد السوريين اللذين انقسموا وأصبحوا بحاجة إلى شبه معجزة تنتشلهم مما وصلوا إليه من فاقة وعوز وتهجير وسجون وموت لم يستثنِ أحداً منهم وإن بصور وأشكال مختلفة.
محاولة الإجابة ربما تنطوي على السوري الطيب الحر المثقف صاحب المشروع الذي توزّعت آلامه بين الوطن الذي رسم الراحل فصوله الأربعة في لوحات مدهشة وبين مآسي الواقع الاستبدادي، والتي عجز أقرانه ولأسباب كثيرة عن تغييره أو إصلاحه أو المراهنة عليه، كما عجزت دول كثيرة وبفعل مصالحها التي لا تشبه فطرة السوري المثقف الطيب الحر عن الإتيان بحل يريح البلاد والعباد على السواء.
ولن أتوقّف في هذا المجال أبداً حول ما يدور من نقد وسجال ومواقف تخصّ نقابة الفنانين في سوريا لأن هذا هو المرجو تماماً من نقابات الاستبداد والتي صنعها على صورته ومثاله الأمر الذي يجعل نقدها لزوم ما لا يلزم بل سأتوقف عند كثير من الفنانين الذين حضروا الجنازة ممن ينتمون بحكم مواقفهم خلال السنوات الأخيرة إلى معسكر الاستبداد وتلك الكلمات التي خرجت من أفواههم تارة ومن عيونهم تارة أخرى.
وسأجيب دون تسرّع: لأنّ حاتم علي يشبه ما بقي من السوريين الأنقياء الذين بحثوا عن مشروعهم في الحياة دون مجازفات، وذلك حق لهم وليس دليلاً ضدهم، وهذا ما فشل بالمعنى الاستراتيجي كلا الطرفين أن ينجزاه، فلا حصلت المعارضة السلمية في بداية الثورة على مطالبها بحكم ردة الفعل الجنونية الساحقة من العنف التي صدرت من السلطة ولا حصلت عليها بعد أسلمة الثورة مع تلك الكيانات الهزيلة المأجورة التي قطفت ثمار دماء الناس الأنقياء والأبرياء، وبالمقابل لم تحصد السلطة التي مارست كل ذلك الكم من العنف على أهدافها، بل إنّها أصبحت أكثر عزلة وإرباكاً على جميع المستويات سيما مع خروج القرار السيادي من جعبتها بحكم الجيوش التي ترتع في جميع جهات البلاد المسكينة.
ربما كان حاتم علي يفكر فنيا بكل ذلك بصمت وعمل يعبر عنه فاستعاد كل ذلك الخلاف القبلي العربي على البسوس ليقسم الناس مبدئياً بين الزير وجساس محاولاً جمعهم في النهاية على فكرة الحق بوصفها فكرة إشكالية ينظر إليها من عديد الزوايا، ولكن مع حاتم علي والمشهدية المتطورة المتكاملة بنص الكبير ممدوح عدوان الأنيق لغوياً والموسيقى التصويرية للمبدع طاهر مامللي التي قبضت على العمل بتلابيبه وأداء الممثلين السوريين المحترفين جداً ربما أراد أن يقول: آن لنا أن نأتلف ونفكر.
ولا بد لابن الجولان من كلمة فصل في مشروعه الفني والثقافي، وقد كانت كلمة الفصل هي التغريبة الفلسطينية العمل الذي وبرأيي المتواضع أخرج فيه حاتم علي أجمل ما في لهجة جولييت عواد وخرافية أداء خالد تاجا وحرفية جمال سليمان وسحر صوت تيم حسن وبراعة رامي حنا وغربة حسن عويتي، والبقية الباقية من الممثلين الذين زرعهم حاتم زرعاً في مواقعهم الصحيحة لينتج كل ذلك الوجع الجميل.
لست بصدد إجراء جولة نقدية في أعمال حاتم علي لأنّني لست مخولاً بذلك وربما لا أملك ما يكفي من العدة النقدية للكتابة حول الفصول الأربعة وقلم حمرة وليس سراباً وأحلام كبيرة ورباعية الأندلس الرائعة والتي تابعناها بشغف الرائي وحنين لماض نراه مشرقاً بعين مصابة بعمى الألوان في حاضرنا المزري ومستقبلنا الذي يحكمه الآخرون.
لكن يحق لي القول، إنّ حاتم يشبهني كما يشبه السوريين الباحثين عن مشروعهم وحريتهم وإن لم يبح بذلك بفم سياسي ربما ظنه عنصر انقسام إضافي، فإنّه قد باح به بعين فنية حاذقة ومشاهد لم تمحَ من ذاكرة السوريين والعرب عموماً، نحن نشبه حاتم وحاتم الذي ارتاح في مقبرة باب الصغير في دمشق العظيمة، يشبهنا، يشبهنا جداً.
ليفانت - أسامة هنيدي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!