الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
جنوب تيرول: نموذج ملهم لعملية السلام في سوريا!!
شيار خليل

منذ ما يقرب من قرن، شهدت منطقة جنوب تيرول تغيرات جغرافية وديموغرافية عميقة نتيجة لتداعيات الحربين العالميتين وتبدل الحدود السياسية. جنوب تيرول، التي كانت جزءًا من الإمبراطورية النمساوية-المجرية، أصبحت جزءًا من إيطاليا بموجب معاهدة سان جيرمان عام 1919، ومع ذلك، تمكن سكان المنطقة من الحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية الألمانية على الرغم من سياسات "إيطالنة" المنطقة. اليوم، تعيش جنوب تيرول حالة من الاستقرار والازدهار بفضل نظام الحكم الذاتي الذي حصل عليه الإقليم، مما يجعله نموذجًا يمكن الاستفادة منه في سوريا، التي تواجه تحديات كبيرة تتعلق بإدارة التنوع العرقي والطائفي بعد سنوات من الصراع.

إن أحد أهم الدروس المستفادة من تجربة جنوب تيرول هو كيفية إدارة التنوع العرقي والثقافي عبر الحكم الذاتي. تمكن الإقليم من الحصول على حكم ذاتي واسع ضمن الدولة الإيطالية، وهو ما سمح للسكان المحليين بإدارة شؤونهم الخاصة في مجالات متعددة مثل التعليم والثقافة. في سوريا، حيث يعيش الأكراد والدروز والعلويون والمكونات الأخرى ضمن إطار جغرافي معقد، يمكن أن يساهم تبني نموذج الحكم الذاتي في تخفيف حدة التوترات وتعزيز الثقة بين مختلف المكونات.

منح المناطق التي تسكنها الأقليات العرقية والدينية في سوريا حكمًا ذاتيًا، شبيهًا بما حصل في جنوب تيرول، قد يوفر بيئة مناسبة لإعادة بناء العلاقات الاجتماعية والسياسية المدمرة، ويسمح لهذه المجتمعات بإدارة شؤونها الداخلية ضمن إطار الوحدة السورية.

كما إن التعدد اللغوي والثقافي يعد عاملاً مهماً للحفاظ على الهوية مع العيش المشترك، فجنوب تيرول اليوم هو إقليم مزدوج اللغة، حيث يُعترف رسميًا بالألمانية والإيطالية كلغتين رسميتين. هذا الاعتراف بالتعدد اللغوي ساهم في الحفاظ على الهوية الثقافية للسكان المحليين وفي الوقت ذاته تعزيز التعايش بين المكونات المختلفة. يمكن لسوريا أن تستفيد من هذه التجربة عبر الاعتراف بالتعددية اللغوية والثقافية الموجودة في البلاد، سواءً عبر استخدام الكردية، السريانية، أو الأرمنية بجانب العربية بكل تأكيد.

التعددية اللغوية والثقافية ليست تهديدًا لوحدة الدولة بل يمكن أن تكون جسرًا للتفاهم بين المكونات المختلفة إذا تم إدارتها بشكل جيد. إن احترام التعددية اللغوية في سوريا قد يكون خطوة مهمة نحو تحقيق مصالحة وطنية شاملة.

جنوب تيرول لم يكن بمنأى عن الصراعات التاريخية التي تمثلت في تبدل السيادة وتغيرات ديموغرافية قسرية، ومع ذلك، تمكن الإقليم من التوصل إلى اتفاقيات دولية ضمنت الحفاظ على حقوق الأقليات وتحقيق استقرار طويل الأمد. في سوريا، يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دورًا مشابهًا عبر دعم اتفاقات سياسية تُفضي إلى ضمان حقوق جميع المكونات السورية وتحفظ وحدة البلاد تحت إطار حكم ديمقراطي مبني على أسس دستورية واضحة. 

عملية المصالحة الوطنية في سوريا، على غرار جنوب تيرول، تتطلب إشراك جميع الأطراف، والتأكيد على احترام حقوق الأقليات العرقية والدينية، بما في ذلك منحهم دورًا في صناعة القرار، سواء على المستوى المحلي أو الوطني. 

التنمية الاقتصادية المتوازنة نموذج للتنمية المحلية، فجنوب تيرول نجح في تطوير اقتصاد محلي قوي يعتمد على السياحة والزراعة، مما ساهم في تحسين مستوى المعيشة في المنطقة وتعزيز الاستقرار الاجتماعي. هذا النموذج يمكن أن يكون ملهمًا لسوريا التي تحتاج إلى تطوير استراتيجيات اقتصادية محلية تدعم استقرار المناطق المختلفة. حيث تعزيز التنمية المحلية في سوريا سيساهم في خلق فرص عمل، وتخفيف التوترات المرتبطة بتوزيع الموارد، وتحقيق نوع من التوازن بين المناطق المختلفة.

من أبرز التحديات التي واجهت جنوب تيرول هي محاولات التغيير الديموغرافي من خلال الهجرة القسرية وسياسات "إيطالنة" السكان. لكن، في نهاية المطاف، تم الحفاظ على التركيبة السكانية الألمانية بفضل الاتفاقيات الدولية. في سوريا، يجب أن تكون إعادة المهجرين إلى مناطقهم الأصلية جزءًا أساسيًا من أي حل سياسي مستدام، مع ضمان عدم حدوث تغييرات ديموغرافية قسرية قد تؤدي إلى تفاقم الصراعات كالتي حدثت في منطقة عفرين الكردية شمال غرب سوريا، كما الغوطة الشرقية التي هجر أهلها من برعاية إيرانية-تركية-روسية. 

هذا ويتمتع جنوب تيرول باستقلالية محلية ضمن إطار الدولة الإيطالية، مما سمح بتحقيق استقرار طويل الأمد. وهنا يمكن لسوريا أن تتبنى نموذجًا مشابهًا، حيث يتم توزيع السلطات بين الحكومة المركزية والمناطق المختلفة، مع الحفاظ على وحدة البلاد. هذا التوازن قد يكون الحل الأمثل لضمان الاستقرار وتجنب تفكك البلاد، مع منح المجتمعات المحلية القدرة على إدارة شؤونها الخاصة.

بالنهاية، تجربة جنوب تيرول تقدم نموذجًا ملهمًا لسوريا في كيفية إدارة التنوع العرقي واللغوي بفعالية، وضمان حقوق الأقليات، وتحقيق الاستقرار عبر الحكم الذاتي وتقاسم السلطة. إن تطبيق بعض هذه الدروس في سوريا قد يساعد في تحقيق مصالحة وطنية شاملة، وبناء دولة تحترم حقوق جميع مواطنيها بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية. الأهم من ذلك، أن جنوب تيرول أثبت أن التعايش السلمي والتنمية المستدامة يمكن تحقيقهما حتى في ظل تاريخ معقد من الصراعات، وهو درس تحتاج سوريا إلى استيعابه في سعيها نحو بناء مستقبل أفضل بعد القضاء كافة أشكال القمع والانتهاك للحريات وحقوق السكان على كامل الأراضي السورية ومن كافة الجهات السياسية والعسكرية الداخلية والخارجية.

يذكر أنه تأتي هذه المقالة على خلفية الجولة الدراسية التي يقوم بها المركز الأوروبي للدراسات الكردية EZKS بالتعاون مع مركز أبحاث يوراك eurac تحت عنوان « المشاركة السياسية في جنوب تيرول: إلهامات لعملية السلام السورية ». حيث تهدف الجولة إلى استكشاف التجربة الفريدة لجنوب تيرول والاستفادة منها في سياق الأزمة السورية، التي تتطلب حلولاً مبتكرة للتعامل مع التنوع العرقي والطائفي وضمان حقوق جميع مكونات المجتمع السوري.

ليفانت: شيار خليل 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!