الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
بدنا نعيش ... ثورة الطناجر  
كمال اللبواني

سألني أحدهم عام 2001 عندما كنا ناشطين في ربيع دمشق متى تتوقع قيام ثورة في سوريا ، قلت له عندما تقرع الطناجر  ... عندما تتوقف المرأة عن قول (قعود يا رجال ما دخلنا) ، (بطيخ يكسر بعضه شو بدنا بالسياسة) ، وتصرخ بزوجها وولدها (روحوا تحركوا شوفولنا حل) ، عندها يتحرك الرجال وتشتعل الثورة ... فالثورة والطنجرة صنوان .


شاهدت فيلماً لناشط اعلامي موالي ( رضا الباشا )  يحتج على غلاء المعيشة ويقارن حياته بحياة المسؤولين ، ويطالب بحصته من أموالهم ، لكنه لا يسأل أبدا عن أحوال بقية السوريين، ولا عن مصدر تلك الأموال التي يطالب بتوزيعها ، أي أن كل همه هو طريقة تقاسم المسروقات والمعفشات ، فقضيته تنحصر تماما في مستوى الدخل ، وتتجاهل كل ما تعانيه سوريا وشعبها ، وثلثي الشعب السوري خارج الرؤية تماما في ثورته الطبقية:


 


لهذا السبب (الثوار) السوريون الجدد في الداخل اليوم يرفعون شعار بدنا نعيش … من دون كيف أو لماذا ، من دون وعي سياسي بالمصيبة التي أصابت سوريا ، أو حتى تعاطف مع الآخرين الذين ذبحوا على مرأى ومسمع الجميع ، حتى من دون التطرق لأي قيم تعطي للحياة معنى إنساني مختلف عن حياة بهائم في حظيرة اسمها وطن ، ( ثوار ) جدد يتجنبون أي طرح سياسي أو أخلاقي أو قيمي يتعلق بالعدالة ، يحركهم الجوع الفيزيولوجي في مناخ من تعطيل العقل الطوعي، يحتجون على غلاء المعيشة وتكاليفها فقط ولا غير ، من دون تشخيص وتحديد أسباب أو أسماء ، مع أنهم كانوا شهودا على كل أفعال النظام التي ربما شارك بعضهم بها وانتفع منها ، لكنهم يمتنعون عن ذكر النظام  بالاسم مع أنه هو  المسؤول الأول والأخير عن كل ما جرى ويجري في سوريا الجريحة منذ زمن طويل ، لكن احساسهم  لم يشعر عندما أحرقت أصابع أطفال درعا وقتل حمزة الخطيب ، بل فقط عندما ارتفع سعر صرف الدولار فوق 1000 ليرة .


الضغط على النظام اقتصاديا أعطى نتيجته فحصل صراع داخلي في السلطة وعضت الحيتان بعضها البعض ، وتحركت الفئات الدنيا من حاضنته ضد الفئات العليا ، لكن كل ذلك لا علاقة له بمفهوم الثورة  ولا بمفهوم الوطن الذي قتل ومات وشبع موتا على يد النظام ومناصريه، وشاركت في قتله أيضا المعارضة الفاشلة والحركات الإسلامية . حتى وصلنا إلى هذا الحضيض السياسي القيمي ، الذي تعبر عنه الأحداث الأخيرة ، التي تنذر بمرحلة جديدة من الحرب الأهلية في سوريا ، نظرا لغياب الوعي والرؤية ، والفقر القيمي والأخلاقي . فبعد فشل الثورة في اسقاط النظام و تدخل قوى عظمى لنصرته عسكريا وانحطاط مستوى كل القوى السياسية الفاعلة لدرجة ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية وجرائم إبادة وترهيب ، لم يعد هناك وسيلة لإنجاز أي حل غير الحصار والعقوبات التي تجعله يتآكل من الداخل ويموت ذاتيا ، وهذا ما يجري اليوم . إنها لعنة دماء الأبرياء لا بد ستطال الجميع ، فالبلاء يعم ، والمثل يقول إذا كان جارك بخير فأنت بخير . فإذا ذبح جارك وهجر ودمرت قراه ومدنه فلن تكون إلا التالي حتى لو كنت شبيحاً .   


صحيح هناك أناس في الداخل لا حول لهم ولا قوة لم يشاركوا في الثورة في السابق ولن يشاركوا اليوم فهم بائسون ويائسون يموتون من الجوع ولا يفكرون بالتمرد ، لكن آخرين أيضا كانوا بلا حول ولا قوة شاركوا في ثورة الكرامة وقدموا ما قدموا من تضحيات ، و كان أبناؤهم أنبل شهدائها ، بل إن أغلبية الشعب الفقير والفلاحين البسطاء هم من كانوا وقود الثورة ، في حين بقيت الطبقات الوسطى والغنية خاصة في المدن بعيدة عن الانخراط الفاعل فيها لحسابات أنانية وخضوع لسلطان الخوف، ولن نتحدث عمن يسمون أنفسهم بالأقليات واحتجوا بالإرهاب الإسلامي لكي يناصروا النظام الأقلوي الطائفي الذي هو رب الإرهاب وخالقه ، ولا القوى اليسارية التي ادعت العلمانية لتناصر النظام في قمع ثورة تسلحت بالإيمان الديني في مواجهة قوى عاتية تريد سحقها . فركبتهم المنظمات الإسلامية الإرهابية وحطمت ثورتهم وقوضت أسسها ، هؤلاء الفلول هم من يتحركون اليوم ، وهم من أظهر العداء للثورة طيلة تسع سنوات ، وهم يريدون أن نؤيدهم من دون أن يعتذروا للضحايا، أو يظهروا تعاطفهم معهم ، فلم نسمع في الحراك أي همسة تعاطف مثلا مع سكان إدلب التي تحرق بقصف همجي من قبل جيش النظام .


في سوريا الأسد هناك مؤسستان أساسيتان يهتم فيهما المواطن الداجن ( الموالي )  هما : المؤسسة العامة الاستهلاكية ، والمؤسسة  العامة للحبوب والأعلاف ، ولكي يحصل على  مخصصاته منها هناك دفاتر وبونات وتواقيع وبطاقات غبية وذكية وو... إجراءات يطول شرحها ، لأنها تبيع بأسعار  توافق عامة الشعب ذوي الدخل المحدود  ( أي الذي يعيش عمليا تحت خط الفقر ) ، أما لماذا يعيش هو بهذا الفقر ، ومن يسرق تعبه وثروات بلاده الغنية بكل شيء ، فهذا خارج المسموح التفكير فيه ، أو حتى الممكن التفكير فيه كبقية الأمور القيمية والنبيلة .  فالفرد الموالي في الدولة الأسدية الشمولية هو رقم ومجرد آلة تحتاج لوقود وأوامر ، تعمل وتتوقف وتنتج متى يراد لها ، أو بقرة حلوب تحتاج لعلف ويستفاد من حليبها وولدها ومن لحمها إذا اضطر الأمر، هامش الإنسانية المتاح له محصور بنوع الطبخة وكمية الملح ، ومع ذلك بقي صامتا خانعا حتى الأمس ، وعندما ضاقت به الأحوال وفرغت الطناجر ، تجرأ بتحريض من النساء على نقد السلطات الدنيا وجدد ولاءه لحامي الفساد والمفسدين الذي ما يزال بنظرهم بطلا بسبب قمعه لثورة الشعب وتقليصه لعدد السكان لأقل من النصف .   


 ونظرا لأن النظام الشمولي يعتبر هذا الشعب الذي عمل على تدجينه جزءا من الثروة الحيوانية، يعيش بطريقة غريزية يطعمه ما يتوفر من علف ، ويسوقه للذبح كلما اقتضت الحاجة ، وبحسب احتياجات المسالخ البشرية التي عمت الوطن عندما تمرد الشعب ، فقد  اشترط عليه تعطيل عقله ليس  فقط بإدمان أغاني التمجيد بالقائد وهتافات الاحتفالات الرسمية ، وما تذيعه مكبرات الصوت في الثكنات والمدارس والدوائر العامة ، بل بجعل المراكز الثقافية والمدارس  تقدم العلف الثقافي للشعب الذي دوّن قيده المدني في سجلات المؤسسة العامة للدواجن ( أي حزب البعث وطلائعه وشبيبته ولجانه الوطنية وميليشياته وشبيحته ) ،  طبعا بعد موافقة الأمن الإسمية على منحه حق الحياة مؤقتا خارج السجون ، ومن رفض ذلك كان مصيره القتل أو التهجير .


ثورة  عام ٢٠١١ لم ترفع شعار الخبز بل الكرامة ، واسقاط النظام المخابراتي الفاسد ، ولم يشارك فيها الجميع ، بقي قسم مهم من الشعب السوري متفرجا ، أو مصرا على تسجيل اسمه في مؤسسات الدواجن والأعلاف التابعة والخادمة للنظام ، وتابع حياته البهيمية وكأن شيئا لم يحدث مستنكرا كليا الثورة على النظام ، ومتجاهلا كليا ما حصل لشبابها الذين حركتهم مشاعر الكرامة ونزلوا للتظاهر ، فخرجوا من حضن الوطن وصاروا طريدة القتل والتعذيب، حدث هذا قبل بكثير من ظهور الإسلاميين ومنظماتهم والتي أصبحت ذريعة ...


لم يكتف الشعب المدجن الموالي بتجاهل الثورة ومطالبها ، بل أرسل أولاده للخدمة في مذبحة وتهجير الشعب السوري هنا وهناك ، ثم تغذى من المعونات الإنسانية المخصصة أصلا للنازحين والمشردين، والتي سرقها الهلال الأحمر السوري بتدليس من الأمم المتحدة ووزعها على شبيحة النظام ، وهكذا ... كلما ضاق الحال بالموالين توغلوا أكثر وأكثر  في التعفيش وسرقة ممتلكات المهجرين ، حتى إذا انتهت سوريا ودمرت وعفشت كلها وصارت خردة وزبالة للحرق ،  عندها فقط رفع بعض الموالين شعار بدنا نعيش ،  في ذات الوقت  تقصف إدلب وتحرق العائلات فيها كل يوم ، وكأن حق الحياة لا يشمل كل مواطن ، وكأن الدولة لا تعتقل وتحكم وتقتل باسمه ، وكأن الجيش الذي يتفاخرون به لا يستهدف مواطنين عزل بكل همجيته .


 سلوكهم هذا يصيبنا بالشك ويدخلنا في الالتباس ... ماذا يريدون ؟ يريدون الطعام ؟ وممن؟ وكيف؟ ... فذلك الحراك الجديد يخلو من أي شعار سياسي ، فقط شعار مطلبي واحد بدنا نعيش ، هنا لا أدري كيف يمكنني أن أتعاطف معهم ، في حين هم تنكروا لعذابات ثلثي الشعب السوري الذي ذبح واعتقل وهجر .  أو كيف يمكنني أن أتوقع نتيجة لحراكهم  طالما خلا من الوعي ،  و من أي مشروع وطني يوحد الشعب الذي انقسم بحدة على أساس طائفي وعصبوي ، إن تمردهم يشبه صراعا طبقيا بين الموالين ، وليس ثورة ضد النظام ، كأنه صراع على الحصص ، وليس على المبادئ والقيم أو من أجلها لأنها لا تتجزأ .  


ما يقلقني من ذلك الحراك أنني لا أتوقع له نتيجة غير نشوب صراعات همجية وارتكاب جرائم نهب وخطف وتهجير وتغيير ديموغرافي طالما بقي من دون تنظيم ووعي سياسي ، فإذا كانت ثورة عام ٢٠١١ التي بدأت بشعار إسقاط النظام كنظام مستبد فاسد مسؤول عن كل ما يجري قد انحرفت عن مسارها لغياب التنظيم والعمل المؤسسي ومفهوم الوطن والدولة ، وتحكم بقيادتها الانتهازيون والإرهابيون والفاسدون ، وركبها الإسلام السياسي الذي شبح على الشعب بذات اسلوب النظام ؟ فماذا نتوقع من ثورة ترفع منذ اليوم الأول الطنجرة شعارا لها وتمتنع عن رفع أي شعار سياسي وتحصر مطالبها بالعلف …


سابقا قال سقراط الفارق بين العبد والحر أن العبد يفضل الحياة على الحرية ، فيأتي من يستعبده لأنه لا يقاتل ، والذي لا يقاتل لا يثور ،  والذي لم تحرك وطنيته كل الأحداث التي جرت ، ولم تحركه نخوته وكرامته وشهامته ،  لا أعتقد أن بطنه سيحوله لثائر وطني، فالثورة ليست غضب واحتجاج فقط بل هي قيم ومبادئ فوق كل ذلك . هم يصرخون من الجوع ، وقد يكفي لإسكاتهم بضع السلات الغذائية ، أو فتح ورشات تعفيش جديدة لكي يعودوا للهتاف بحياة القائد المفدى والارتزاق في ميليشياته التي يبنيها الاحتلال الروسي والإيراني (فالعرب عاشوا على الغزو كلما ضاق بهم الحال ) …


لكنني أخشى أن جهة ما قد تستغل تمردهم لتقوم بترحيلهم بالجملة لحظائر أخرى أكثر أمنا يتوفر فيها العلف التركي ربما في شمال سوريا .. وأخشى أن يكون  هناك مشروع تقسيم طائفي وقومي وتقاسم يمنع عودة سوريا للحياة مرة أخرى ... أنا فعلا لا أدري،  ما أعرفه جيدا أن النظام في سوريا يريدها من دون شعب ، يكفيه بعض المرتزقة وقوات الاحتلال الذين يدفع لهم من ثروات البلد ، فما ضرورة الشعب ؟  وما أعرفه أن الدول المتدخلة تسعى لتقاسم خيرات سوريا ؟ وما تعلمته أيضا أن أي ثورة من دون وعي ومشروع وقيادة وتنظيم سوف تنحرف وتتحول لفوضى وهمجية ، وتنهي بعكس المرجو منها ... أي ستخدم النظام والمحتل . كما فعل الإسلاميون عندما جاؤوا لنصرة الثورة .


مصالح البشر لا يمكن أن ترفع كشعارات لهم ، فهذا معيب ويعبر عن جهل ، لأن أقصر طريق لتحقيق المصالح هو الهمجية ، القيم والمبادئ والنظم هي ما ترفع لأنها تسمح بتحقيق تلك المصالح جماعة ومن دون تنازع ، أي من دون تدمير الاجتماع الإنساني ذاته ... فالإنسان كائن أخلاقي وليس كائن غريزي ، مع الاعتذار من ماركس وأتباعه من صبيان بوتين وخامنئي .


نصيحة لمن تزعجه صراحتي : لا تكرروا أخطاء غيركم ... دفعنا مليون شهيد وضاعت تضحياتنا في دهاليز التسويات على يد الانتهازيين الذين ركبوا ثورتنا ولم نستطع ازاحتهم حتى الآن .


أيضا ملاحظة : الوطن ليس طنجرة أو بقرة حلوب ، بل عقد مدني سياسي حقوقي بين أحرار يريدون العيش المشترك .


كاتب وسياسي سوري

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!