-
المصالحة السورية التركية
بعد الفشل الطويل في حسم الصراع عسكرياً في سوريا، بسبب تدخل دول كثيرة إقليمية ودول عظمى لحماية الأسد، اتفق الأمريكان والروس على رفض الحل العسكري، والبحث عن حل سياسي عبر عنه بيان جنيف (١)، والذي فشل أيضاً بسبب عدم توفر الرغبة الحقيقية بالحل عند مصممي مسار التفاوض من الدول الضامنة ذاتها.
روسيا التي تريد الإبقاء على الأسد، وأمريكا التي تفضل استخدام الصراع في سوريا كساحة استنزاف لقوى التطرف، ضمن استراتيجيتها المعلنة والمستمرة منذ عام 2001، وبسبب غياب المحددات والضمانات وأدوات التنفيذ عن عملية التفاوض، وبسبب تشخيص الحالة كصراع سياسي بين طرفين، وليس كقضية قانونية جنائية، وجرائم ارتكبها نظام خرج عن مهامه بحق شعبه.
وبعد ذلك اختيار فريقي التفاوض من المرتكبين بحق الشعب السوري، والذين لا مصلحة لهم في قيام العدالة والديمقراطية في سوريا، خاصة وأن الخلافات بين الدول الضامنة للحل السياسي المفترض تزداد يوماً بعد يوم، وبشكل خاص بعد حرب أوكرانيا حيث توقفت تماماً عملية التفاوض العقيم أصلاً، لتبقى قضية الصراع في سوريا من دون أمل في الحل من الناحية النظرية، وهذا ما دفع الكثير من دول المنطقة للاعتراف بانتصار روسيا والأسد والعودة للتعامل معه كأمر واقع، وهذا ما بدا واضحاً بموقف الدول العربية، ثم بموقف تركيا مؤخراً، وحتى موقف قسد، وبعض قادة المعارضة السورية الذين سرقوا تمثيل الثورة بمساعدة الدول الفاعلة متجاهلة أي تفويض شعبي، باحثة عن مصالحها الخاصة فقط كعملاء ووكلاء للغير وليس لسوريا.
بغياب الحل التقليدي نظرياً، بدأ التفكير بطريقة غير تقليدية، وطرحت فكرة القبول بالنصر الروسي، والعودة للاعتراف بنظام الأسد (الذي هو هدف الروس) الذين عطلوا تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، ومسار جنيف، وبدلاً عنه تابعوا السير بمسار سوتشي وسياسة خفض التصعيد التي كانت تعني تسليم المناطق تباعاً للنظام، كما حصل في حلب وإدلب والغوطة ودرعا، والتي سار بها الغرب والدول العربية وإسرائيل وتركيا بالتعاون مع الروسي على أمل أن يكون ذلك على حساب تمدد إيران، محاولين إبعاد النظام عن ايران، وهو ما اعترضنا عليه بشدة منذ عام 2017 لكن دون جدوى، وجرى تجاهل تحذيراتنا من أن هذا المسار سيقوي إيران ولن يضعفها، وهو ما ثبتت صحته تماماً، وذلك بسبب اعتماد الروسي والنظام على إيران وميليشياتها في كل شيء تقريباً على الأرض، وتغلغلها عميقاً في نسيج الدولة والجيش والأمن والمجتمع والاقتصاد السوري، بشكل يجعل من المستحيل إخراجها، وهو ما عبر عنه الروسي عام 2021، ثم النظام بعد دخول الإمارات والأردن على الخط، حيث طلب النظام مساعدته قبل أن يعلن عدم قدرته، فكانت النتيجة دعم النظام وزيادة تغلغل إيران، وسطوتها وتحكمها، وزاد فوق ذلك قيام روسيا بتسليم معظم نفوذها وعملائها للحرس الثوري الإيراني بعد انشغالها بحرب أوكرانيا.
الفكرة البراغماتية بقبول الأسد كأمر واقع حظيت على الأقل بعدم الاعتراض الغربي عليها، حيث أبقى الغرب على شرط عدم البدء بإعادة الإعمار قبل تحقيق الانتقال السياسي، كما احتفظت أمريكا بالعقوبات وشرط المحاسبة على الجرائم ضد الإنسانية واستخدام الكيماوي كسلاح يعيق إعادة الاعتراف بالنظام، رغم تجميدها عملياً لقانون سيزر، فالغرب لم يكن يبالي لتدخل روسيا في سوريا، ولا لتوسع إيران على حساب الآخرين في المنطقة، فالإيراني ليس عدواً إلا للعرب وإسرائيل، وروسيا لم تكن تصنف كعدو، بل كانت العلاقات معها محكومة بالتوافق الذي ساد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، واعتمد باجتماع مالطا بين جورج بوش الأب، وميخائيل غورباتشوف نهاية عام 1989. وبقي سائداً حتى غزو روسيا لأوكرانيا، والذي أعطى خطتنا البديلة فرصاً حقيقية للنجاح.
في بداية هذا العام أدخل غزو روسيا لأوكرانيا عاملاً جديداً للمعادلة السورية، هو رفض الغرب للتوسع الروسي، وسعي الغرب لاستمالة إيران حتى لو على حساب القبول بتمددها وتوسيع نفوذها في المنطقة، لإبعادها عن روسيا، بواسطة العودة لخطة العمل المشتركة ورفع العقوبات عنها، وهذا ما يخيف العرب ومعهم إسرائيل بشدة، تلك المخاوف التي لم تنجح زيارة بايدن للمنطقة في تبديدها، وهذا أيضاً يزعج معظم السوريين الذين عانوا من التغيير الديمغرافي المنهجي الذي تتبعه ايران في سوريا والذي كان يسير تحت دخان مسار سوتشي وأستانا.
التركي أيضاً شعر بأهميته بسبب صراع الغرب والشرق، وحاول فرض مصالحه وتكبير حصته، فهو ليس عدواً لأحد، سوى مشروع التقسيم باستخدام الكرد السوريين كما جرى في العراق، ففكرة سيطرة الأسد تبدو مناسبة له أيضاً عندما ينعدم أفق الحل التقليدي، ولكنه يشترط التزام النظام، وقدرته على استئصال ميليشيا قسد المدعومة أمريكياً، وهذا طلب تركي يستحيل على النظام تحقيقه، ومرفوض من حليفه الإيراني الساعي لتوقيع الاتفاق النووي مع أمريكا، ولكنه مقبول جداً من الروسي الذي يريد إخراج القوات الأمريكية من سوريا من دون صدام مباشر معها، عبر دفع وكلاء محليين لقتال حلفائها، المناورة التركية الأخيرة تقع في هذا السياق، حيث طالبت تركيا بمنطقة آمنة بعرض 30 كم، وهددت بعملية عسكرية لتنفيذها، مع أنها كما عودتنا لا تستطيع التحرك من دون موافقة دولة عظمى واحدة على الأقل، وعندما جوبهت عمليتها برفض الغرب، سعت مع الشرق، وعندما رفض مشروعها من قبل روسيا وإيران، اقترحوا عليها بدلاً منه المساعدة في فرض سلطة النظام على كامل سوريا لإحراج الأمريكيين وجعلهم يتخلون عن حمايتهم لقسد، وهكذا أعلنت تركيا سياستها الجديدة الرامية لإعادة العلاقات مع النظام ودفع المعارضة الخاضعة لها لمصالحة النظام، وهي الطريقة الوحيدة المتبقية أمامها لتقويض وجود قسد عملياً.
المناورة التركية هذه اعتبرها الشعب السوري بمثابة صفعة قاسية وجهها له صديق ادعى صداقته لفترة طويلة. فتركيا تريد من السوريين القبول بنظام الأسد والاحتلال الإيراني والروسي، معاً وجميعاً، ونسيان ضحاياهم والقفز للتصالح مع النظام والمحتلين، وهذا أيضاً ما قبل به وفد التفاوض الذي يستجدي مشاركة رمزية في السلطة مع الأسد، فالمعارضة الحالية هي عملياً لعبة بيد تركيا، سقطت تماماً بنظر الشعب.
ليفانت - كمال اللبواني
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!