-
الشيخ عبدالسلام البارزاني الذي رسم بالدم طريق خلاص شعبه قبل ١٠٥عاما في مثل هذا اليوم
البروفسور المساعد د. علي ميراني
جامعة زاخو/ قسم التاريخ
تمتعت قرية بارزان الواقعة في إقليم كردستان العراق، بموقع استراتيجي مهم على الدوام، اذ ان وعرة طرقها وأوديتها الجبلية عملت على منح سكانها القرويين الشخصية المميزة وتمتعوا بخصال فريدة مقارنة بغيرهم ، لعل ابرزها عشقهم المتزايد للحرية وعدم تقبلهم لأي نوع من الظلم الفادح ومن أي جهة كانت، وازدادت تلك الأهمية ببروز شيوخ أسرة بارزان الدينية منذ منتصف القرن التاسع عشر، اثر هجرة جدهم مسعود واستيطانه قرية بارزان قادما من أطراف مدينة العمادية عاصمة الإمارة الكردية القوية ( بادينان) ، والتي أدت أدوار مميزة طوال قرون، كل ما تقدم هيأ الوضع لان يتصدر أبناء واحفاد مسعود الأول الصدارة ولان تتحول قريتهم الصغيرة لبؤرة الحركة القومية الكردية منذ وقت مبكر.
عمل احفاد مسعود الأول بإخلاص وجد -بحسب المصادر- ليكونوا سندا قويا لابناء قرية بارزان عبر مناصرة حقوق الفلاحين البسطاء مستخدمين المنصة الدينية الصوفية كأهم واجهة للدفاع عن المظلومين المعدومين، وبرز منهم عدد من الشيوخ الكبار الى ان وصل الأمر والمشيخة الى الشيخ عبدالسلام الأول ونجله الشيخ محمد البارزاني اللذين سعيا بقوة لغرس مبادئ الطريقة الصوفية النقشبندية السمحة بين الأهالي، لكن بطابع محلي كردي اكثر من كونها طريقة مستوردة وغريبة عن الأهالي، ومما عزز مكانة الطريقة، كان بناء تكية بارزان الصوفية في وقت لاحق كزاوية دينية ومدرسة ومجلس اجتماعي استشاري في الوقت ذاته ، اذ تفيد عدد من المصادر ان البارزانيون استلموا الطريقة من مولانا الشيخ خالد النقشبندي مباشرة فيما تفيد مصادر أخرى انها انتقلت الى شيوخ بارزان من جيرانهم سادات النهري في شمزينان.
كان الشيخ عبدالسلام البارزاني الثاني اكبر أنجال الشيخ محمد البارزاني ، والأكثر إدراكاً لما يعانيه المحرومون من أبناء منطقة المظلوم، نتيجة ظلم السلطات العثمانية وأدواتها المحلية عبر تشجيع الاغاوات الذين ربطوا مصيرهم بمصير هؤلاء والذين ازداد تعسفهم يوما بعد يوم.
عمل الشيخ عبدالسلام على تمتين جبهته المحلية اول مرة، اذ ضم ستة عشائر مجاورة الى عشيرة بروژى ، وباتت تلك العشائر كلها تتسمى بتسمية عشيرة بارزان الكبيرة، والتي تميز أبنائها بالعمامة الكردية الحمراء ، وبات أبناء تلك العشائر يدينون لشيخ بارزان بالولاء المطلق ويعدون أنفسهم فدائيين له وفي أي وقت يطلب منهم التضحية بأنفسهم دون تردد، كما طبق الشيخ مبادئه التي امن بها في المحيط الذي يعيش فيه، ومنها تحريم قتل الحيوانات البرية اثناء مواسم تزاوجها، ومنع تقطيع الأشجار، بل إلغاء المهور الغالية، وتشجيع التكاتف والانسجام الروحي بين اتباعه، الذين بادلوه المحبة والطاعة العمياء بحسب المصادر التي التقت بالشيخ واتباعه وأبرزهم الرحالة البريطاني ب.ويكرام والموظف الحكومي الموصلي والمؤرخ صديق الدملوجي.
سعى الشيخ عبدالسلام الثاني لتوسيع نطاق حركته الاجتماعية التنويرية، اكثر فاكثر حتى تأخذ طابعا عاما اشمل، فكان ان اتفق مع عدد من الشخصيات المهمة في منطقة ( بادينان) على إرسال برقية الى الباب العالي يطالبه فيها بتحسين الحالة المعيشية للأهالي مع بعض الخصوصية للمناطق الكردية، وأصر الشيخ على ان تكون ( وثيقة دهوك) ممهورة باسمه وحده، حتى يكون وحده المسؤول أمام الباب العالي إزاء تلك المطالب التي كانت الأولى من نوعها ، ومن الممكن ان تكون سببا وحيها لتصفية المطالب بها .
لم يكن الباب العالي في وارد ان يلبي مطالب الكرد المحقة، بل على العكس من ذلك وجدت السلطات العثمانية المحلية في تلك المطالب فرصة سانحة للتخلص من الشيخ عبدالسلام ومؤيديه ودعواته الإصلاحية ، لاسيما ان أزلامهم من الاغاوات كانوا قد وجدوا في الشيخ منافسا قويا لهم وإذا استمر على ما هو عليه بامكانه إنهاء نفوذهم على الفلاحين الفقراء.
تضافرت العوامل المتعددة لقيام الشيخ عبدالسلام الثاني بحركته المسلحة في العقد الأول من القرن العشرين ضد السلطات العثمانية واستطاع إلحاق الهزيمة تلو الأخرى بهم، الأمر الذي تطلب تعاون ولايات عثمانية عدة معا، للنيل من الشيخ واتباعه ابرزها ولاية الموصل وولاية وان، بل ان الباب العالي اضطر الى إرسال القوات من مناطق ابعد للقضاء على حركة الشيخ، والتي باتت تسيطر على معظم منطقة العقرة التابعة لولاية الموصل ، اذ كان المسلحون الكرد ينطلقون من سفوح الجبال القريبة ويوقعون الهزائم بالجيش العثماني والأفراد المحليون التابعون لها بكل جدارة وحنكة عسكرية.
ادركت الدولة العثمانية ان خطر الشيخ عبدالسلام يتعاظم يوما بعد يوم، لذا صممت على إنهاء حركته المسلحة باي وسيلة كانت، فكانت ان امرت واليها على الموصل سليمان نظيف باشا بحشد اكبر قوة من الجيش للتصدي للشيخ، ومع ما تقدم لم يكن بالإمكان هزيمة الشيخ لولا خيانة احد الأفراد المحليين في شرق كردستان والذي كان قد صمم على ان يبيت الشيخ مع عدد من اتباعه في قريتهم اثناء عزم الشيخ التوجه الى لقاء القنصل الروسي في تبليسي من اجل طلب الأسلحة منهم في حربه مع العثمانيين.
جرى إعدام الشيخ عبدالسلام في ١٤ كانون الأول علم ١٩١٤ ، في مدينة الموصل ، اذ يذكر المؤرخ صديق الدملوجي الذي كان هو الآخر مسجونا وقتذاك، كيف ان الشيخ كان يفكر باهل بيته والأهالي وهو بانتظار صدور حكم الإعدام في أي لحظة، ويروي كيف ان احد الشبان الكرد من اتباع الشيخ صاح والحبل ملفوف حول عنقه: عاش شيخي، الموت لاعداء شعبنا!
اكمل اخوة الشيخ الطريق الذي رسمه بالدم ، و رحل وهو في ريعان شبابه وفي أوج عطائه الروحي والاجتماعي والسياسي، لاسيما اخاه الشيخ احمد البارزاني، ومن ثم اخاه ملا مصطفى البارزاني قائد الثورة الكردية الأبرز في التاريخ الحديث والمعاصر للشعب الكردي.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!